أخيرا اكتشف النظام الإيراني، بمتشدّديه ومعتدليه، بل بمعتدليه قبل متشدّديه، أن لديه ما يتعلمه من مدرسة النظام السوري الذي أقامه حافظ الأسد في العام 1970 وورّثه إلى نجله بشّار في السنة 2000. تعلم كيف أن النظام السوري احتلّ لبنان عسكريا ووضعه تحت وصايته “بناء على رغبة اللبنانيين”.
قبل أيام أكد وزير الخارجية الإيراني محمّد جواد ظريف، المحسوب على خط الاعتدال، خلال وجوده في ستوكهولم أنّ إيران لن تنسحب عسكريا من العراق “إلا في حال طلبت الحكومة العراقية ذلك”. بالطبع، لا تعترف إيران بوجود قوات عسكرية لها في العراق وتكتفي بالكلام عن “خبراء” يساعدون في الحرب على الإرهاب الممثل بـ”داعش”. كلّ ما أراد ظريف قوله، الذي لا فرق بين كلامه وكلام أي ضابط كبير في “الحرس الثوري”، أن إيران موجودة في العراق بناء على طلب العراقيين ورغبتهم، تماما مثلما كانت سوريا موجودة في لبنان بناء على طلب من اللبنانيين وبغطاء من الشرعية اللبنانية!
ما لم يوضحه ظريف، الذي لعب دورا أساسيا في التوصل إلى الاتفاق في شأن الملف النووي الإيراني مع مجموعة البلدان الخمسة زائدا واحدا قبل أحد عشر شهرا، أمر في غاية البساطة. كيف للحكومة العراقية، التي على رأسها شخص من “حزب الدعوة الإسلامية” أن تطلب انسحابا عسكريا ايرانيا من العراق؟ أكثر من ذلك، كيف يمكن لحكومة عراقية طرح مثل هذه الفكرة، أو حتّى التفكير فيها، وهي تحت رحمة “الحشد الشعبي”، أي الميليشيات المذهبية التابعة للأحزاب الدينية العراقية، بما في ذلك “الدعوة”، وهي أحزاب ذات مرجعية إيرانية؟
طوال تسعة وعشرين عاما، تصرّف النظام السوري في لبنان بهذا الأسلوب. كان لبنان بالنسبة إلى النظام السوري، مثل العراق بالنسبة إلى إيران الآن.
دخل حافظ الأسد لبنان بالتفاهم مع الولايات المتحدة وإسرائيل وبحجة حماية المسيحيين أوّلا، في حين كان الهدف الحقيقي وضع اليد على “المقاتلين التابعين لمنظمة التحرير الفلسطينية” بحسب تعبير وزير الخارجية الأميركي هنري كيسينجر الذي هندس في أواخر العام 1975 عملية دخول الجيش السوري إلى لبنان بضوء أخضر إسرائيلي أعطاه إسحق رابين رئيس الوزراء في تلك المرحلة.
من 1976 إلى 2005، تاريخ الانسحاب العسكري السوري من لبنان نتيجة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وتوجيه اللبنانيين أصابع الاتهام إلى بشّار الأسد، كان جواب دمشق، كلّما طُرح موضوع الانسحاب العسكري السوري، ولو على مراحل، أنّ على الحكومة اللبنانية أن تطلب ذلك بشكل صريح. هل كانت هناك حكومة لبنانية قادرة على توجيه مثل هذا الطلب قبل اغتيال رفيق الحريري ونزول اللبنانيين إلى الشارع في ثورة عارمة قد لا تتكرر يوما في لبنان؟
منذ أصبح لبنان تحت الاحتلال السوري، لم يعد أيّ زعيم سياسي يتجرّأ على توجيه مثل هذا الطلب. تعرض ريمون إده الذي عرف باكرا النتائج التي ستترتب على الدخول العسكري السوري لمحاولات اغتيال عدّة. انتهى به الأمر في منفاه الباريسي. ولما أدرك الزعيم الدرزي كمال جنبلاط، متأخرا، خطورة الاستعانة بالمسلحين الفلسطينيين لتغيير النظام في لبنان وبعد ذلك أَبعاد اللعبة التي يمارسها حافظ الأسد بالاتفاق مع الأميركيين والإسرائيليين، وُجدت مجموعة على رأسها ضابط علوي سوري معروف، تنفذ عملية اغتيال الزعيم الدرزي ليس بعيدا عن مسقط رأسه في المختارة. قُتل جنبلاط في منطقة توحي بأن مسيحيين وراء الجريمة وذلك بهدف إثارة الدروز على جيرانهم في منطقة الشوف اللبنانية. بالفعل حصل ردّ فعل درزي. قتل مسيحيون عدة… وتظاهر النظام السوري بأن وجوده وحده الذي يضمن السلم الأهلي، ويحول دون حصول مجازر أخرى تطال مسيحيين.
بعد اغتيال كمال جنبلاط، استوعب جميع اللبنانيين الرسالة. من لم يفهم تعرّض لاغتيال سياسي مثل الرئيسين صائب سلام وتقيّ الدين الصلح وغيرهما… أو لاغتيال جسدي مثل المفتي حسن خالد. لائحة الاغتيالات التي نفّذها النظام السوري في لبنان طويلة، بل طويلة جدا وتشمل رئيسيْن للجمهورية هما بشير الجميل ورينيه معوّض، الذي انتخب بعد اتفاق الطائف والذي كان يمتلك من العلاقات الداخلية والإقليمية ما يمكن أن يمكنه من تنفيذ اتفاق الطائف الذي يتضمّن، بين ما يتضمّنه، الانسحاب السوري على مراحل من لبنان. بعد اغتيال رينيه معوض لم يعد هناك من يتجرأ على طرح هذا الموضوع وذلك طوال ما يزيد على عشر سنوات.
منذ الاجتياح الأميركي للعراق، الذي كانت إيران شريكا أساسيا فيه، اعتمدت طهران الأسلوب الأسدي. كان كافيا أن يقول محمد باقر الحكيم، زعيم “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية” كلاما يستشفّ منه أنّ الرجل ليس موافقا على الطرح الإيراني لمستقبل العراق مئة في المئة، حتّى تعرّض موكبه لانفجار في داخل النجف. لم يكن ممكنا التعرّف على جثته إلّا من الخاتم الذي كان يحمله…
من لم يفهم مدى جدية إيران في مشروعها العراقي، كان عليه إعادة حساباته بعد الطريقة التي أُعدم بها صدّام حسين الذي شنق من منطلق طائفي ومذهبي، وليس لاعتبارات مرتبطة بما ارتكبه على مساحة العراق. جاء إعدام صدّام بعد سلسلة اغتيالات طالت ضباطا عراقيين، خصوصا طيارين، شاركوا في الحرب العراقية الإيرانية بين 1980 و1988.
لا حاجة إلى سرد ما قامت به إيران في العراق لتأكيد أنّ البلد صار تحت وصايتها. كلّ ما فعلته، في النهاية، كان يصبّ في تغيير طبيعة المدن والمناطق وجعل الميليشيات المذهبية المرجعية الأولى والأخيرة في البلد.
هذا ما سعى بشّار الأسد إلى عمله في لبنان عندما أطلق يد “حزب الله” تحت شعار “المقاومة” في المواجهة التي كانت قائمة مع كلّ من لديه اعتراض على الوصاية السورية. لم يستوعب أن مثل هذه الشراكة مع “حزب الله” في لبنان ستنتهي بخروجه منه بعد الدخول في مغامرة مشتركة استهدفت التخلّص من رفيق الحريري لتأديب كلّ من يتجرّأ على الاعتراض على إملاءات دمشق.
لا شكّ أن هناك اختلافات بين لبنان والعراق. هذا ليس عائدا فقط إلى تركيبة البلدين والفارق الكبير في مساحتهما وثرواتهما وفي الأهمّية الاستراتيجية للعراق. لكنّ المفارقة أنّ إيران لا تزال تؤمن بأن مدرسة النظام السوري في لبنان لا تزال تنفع في العراق. هل تنجح إيران في العراق بالاعتماد على أسلوب النظام السوري؟
ما فاجأ النظام السوري في لبنان كان الشارع السنّي الذي لم يتصوّر بشّار الأسد يوما ردة فعله على اغتيال رفيق الحريري. هل يفاجئ شيعة العراق إيران ردّا على اغتيال العراق، خصوصا أنّ ما على المحكّ حاليا هو مستقبل العراق كلّه؟
*نقلاً عن “العرب”