لا تعيش «داعش» في أية تسوية سياسية عادلة تعالج علل العراق وإخفاقاته منذ عام 2003. فلن يخرج بعض السنة داعشهم، ولن تضطر بغداد لاختراع داعشها.
العرب::محمد قواص [نشر في 2014\01\17]
يستعينُ ياسين مجيد، عضو البرلمان عن ائتلاف دولة القانون، بتجارب النظام السابق في العراق لتبرير حملة نوري المالكي على الأنبار. يقول: “لو كان صدام حسين من يحكم لضرب خيمة الأنبار بالكيماوي”.هكذا تتعملق الخيمة في رمزيتها وما تمثله، فترتفع سداً منيعاً ضد الحكم في بغداد يستحقُ إزالتها إطلاق الحملات المتعددة المضامين والأهداف.
لكن رئيس الوزراء العراقي أدرك سريعاً أن “غزوة” الأنبار لن يكتب لها ما يريده ولن تحقق له “النصر المبين”.
توقف الرجل أمام ما حاول تبسيطه في تقديم الأمر على أنه حرب الدولة ضد الإرهاب، ولم يوفّق في سعيه للقفز عن حراك أكبر المحافظات العراقية، أو للالتفاف على ساحتها المعتصمة منذ شهور. بدا للمالكي أن الحرب ضد “داعش” لا تُقرر في بغداد، كما لا يمكنها أن تأتي بثمار دون المرور بشعاب الأنبار وأهلها.
اختلطَ أمرُ المعركة على أهل الحكم في بغداد كما على أهل الحلّ والربط في الأنبار. بدت “داعش” يافطةً عامة تختلطُ فيها “القاعدةُ” بالعشائر، فيما الخيط الفاصل بينهما، يبرزُ ويختفي وفق ظروف الزمان والمكان.
تظهرُ “داعش” كالبرق، تجتاح الفلوجة وتطرد رموز الدولة بما يشكل انهياراً صاعقا لهيبة المالكي، ثم تختفي “داعش” كالسحر لتعود للعشائر كلمتها التي تفرض انسحاب الجيش العراقي، وتحظى باعتراف المالكي بأنها المكوَن الأول لعودة الفلوجة والرمادي وباقي الأنبار إلى حضن الدولة.
أهي داعش التي غزت مدن الأنبار حسب ما أعلن محافظها أحمد خلف الدليمي وزعيم تنظيم “الصحوات” الشيخ أحمد أبو ريشة؟ أم ليست داعش التي نفى وجودها إعلان زعماء عشائر (أبرزهم زعيم عشائر الدليم علي الحاتم السليمان ومفتي العراق رافع الرفاعي ورجل الدين البارز عبد الملك السعدي) واعتبار الأمر “خدعة يراد بها تقويض ثورة العشائر؟
الوقائع تقطعُ أن أمر الميادين في الأنبار في يد رجال الدين وزعماء العشائر، وأن الانتشار المكثّف والسريع لعشرات الآلاف من المسلحين في المحافظة يعكسُ استعدادا عسكريا وتنظيميا عالياً لتلك المواجهة المنتظرة ضد بغداد.
في معركة الأنبار المعلنة تتعقدُ الخرائط وتتمددُ مدياتها. يُطلُ السرطان المذهبي مهددا بانفجار أورامه بما يتجاوز حدود المحافظة وحدود العراق. تبدو المعركة التي تُخاض ضد “داعش” العراق مختلفة عن تلك التي تُخاض ضد “داعش” سوريا. تتقدمُ المعركة العراقية بصفتها معركة الشيعة ضد “الإرهابيين” السُنّة (والمالكي ينتقد اتهام القوات العراقية بالطائفية)، فيما تنبري المعركة في سوريا سُنّية تجري بين الثورة والإرهاب. إيران عرضت مساعدة بغداد في تصفية داعشها، فيما تُتهم طهران بأن لها أصابع في “داعش” السوريين.
وحدها واشنطن أرادت أن يكون للعرسين (ضد “داعش” في البلدين) عزفٌ واحد. فالحرب العالمية ضد الإرهاب، تقليعة هذه الأيام، تُسوّق في الكرملين كما في البيت الأبيض مروراً بعواصم أوروبا (تهرول واشنطن لدعم المالكي من خلال مجلس الأمن فينتقد ما يسمى المجلس العسكري لثوار الأنبار خلاصات المجلس المتسرعة).
على أن اهتمام واشنطن بمعركة الأنبار وتصحيح إيقاعاتها، يطرحُ أسئلة حول إمكانات عودة الولايات المتحدة إلى العراق من نافذة الأنبار للعب دورٍ جديد في بلد غادرته من الأبواب الواسعة (جديرٌ تأمل السجال الأميركي الداخلي حول الأنبار).
في العزف الإيراني- الأميركي على وتر الإرهاب في العراق، تمرين نشاز من داخل صفقة كبرى يجري بناؤها بينهما ساعة بعد ساعة وساحة بعد أخرى. وربما في اهتمام الأميركيين المفاجئ بعراق هجروه بخيبة، تفحصٌ تجريبي لشروط تلك الصفقة وحدود الشراكة بينهما. فكما لواشنطن إطلالتها البغدادية، فإن لها علاقاتها المباشرة، التي تذكّر بها هذه الأيام، مع عشائر الأنبار ووجهائها. فبينها وبينهم “صحوة” تكشف كم أن ظلّ الأميركيين (رغم ما ارتكبوه في الفلوجة عام 2004) ما زال أخفّ على الأنباريين من “جيرة” إيران وانجازات الجنرال قاسم سليماني في بلادهم (أصواتٌ من الأنبار تعتبر أن حملةَ المالكي على محافظتهم هي أمرُ عمليات إيراني).
أن يتدخلَ جيش بغداد في الأنبار، سواء ضد ساحات الاعتصام، أو ضد “داعش” وبيئتها، فإن ذلك يُفهم في العراق على أنه اعتداءٌ ضد السُنّة يستدعي تصلّب مواقف قياداتهم.
وسواء تعلّق الأمر باستقالات جماعية قدّمها عدد من النواب السُنّة (من “القائمة العراقية” و”متحدون”..إلخ)، أو بخروج العشائر وكشفها عن مستوى تسليحي لافت، فإن النخبة السياسية العراقية أدركت جسامة ذلك، وراحت تلتف على الحدث بالمبـادرات (من قبل النجيفي والحكيم وعلاوي وبرزاني)، التي تعترف بالجانب المطلبي للسُنّة، السابق على ظاهرة “داعش”، والذي ينهل من منابع خيبـة وتهميش منذ سقوط الحكم السابق وفرض أمر المحتل عام 2003.
وفيما كتب صحافي مسيحي في لبنان أنه في المعركة المفترضة بين “داعش” وحزب الله فإنه يقفُ مع “داعش”، فليس مستغرباً أن يجد أهل الأنبار السُنّة أنفسهم في موقع يفضلون من خلاله “أن تقعَ مدنهم في قبضة ملثمين مجهولين من أن تقع في يد جنود بغداد” (على ما نقلت نيويورك تايمز). وإذا ما كان ذلك يعبّرُ عن منتهى العبثية، فإنه في الوقت عينه يعكس مدى ارتفاع جدار الحقد الذي بَنت مداميكه سياسةُ نوري المالكي ومناوراته.
يتحدث المالكي عن “حرب بين أنصار يزيد وأنصار الحسين”. يتحرى بذلك شدّ العصب الشيعي حوله عبر تقديم نفسه رأس حربة ضد “الإرهاب” السُنّي في الأنبار في الطريق إلى ولاية حكومية ثالثة يسعى إليها. يكون له ذلك، ويستعيد توازناً داخل الحاضنة الشيعية في مقابل شركائه في الائتلاف الشيعي (“التيار الصدري” بزعامة مقتدى الصدر و”المجلس الأعلى” بزعامة عمار الحكيم).
لكن الرجل يسقط في معركة القضاء على مفاعيل الاعتراض السُنّي الذي حال دون سيادته الكاملة منذ إبعاد طارق الهــــــاشمي واتهــامه بالإرهاب. كان من شأن حملته ضد “داعش” في الأنبار، المدعومة من العالم، أن تطيح داخل غبارها بالمتمردين الذين فشل في إجهاض ساحاتهم.
بيد أن حصادَ المعارك أفرج عن قوى عسكرية كامنة لا يبدو أن المقاربة العسكرية قادرة على حسمٍ معها، كما لا يبدو أن الظروف الإقليمية والدولية تسمح بمواجهتها (ألم يحث جو بايدن المالكي التواصل مع شيوخ العشائر؟).
لن نُغرق أنفسنا في نظريات المؤامرة التي تحيط بنا حول ظروف تشكّل “داعش” وتعملقها. في العراق من يقول أن “داعش” خرجت من السجون العراقية بتواطؤ من دولة المالكي (حسب تصريحات وزير العدل العراقي حسن الشمري)، كما في سوريا من يشير، منذ سنوات، أن الإرهاب الإسلامي خرج من سجـــون دمشق بتواطؤ من حكامها. فإن صدق ذلك، ونحن لا نستبعده في انحطاط وسائل الحكم إلى هذا الدرك، فإن “داعش” ترياقٌ تم اختراعه غولاً يجري إطلاقه، إما لضرب المتمردين الحقيقيين في الحالة السورية، أو لتبرير ضرب المعارضين الحقيقيين في الحالة العراقية. وإذا ما تأكدَ فشلُ المقاربة الداعشية في بغداد، فإن ذلك يعني، بعد الحملة ضد داعش في سوريا، أن ترياق “داعش” بات متقادماً انتهت صلاحيته، وأن المنطقة قادمة على ما بعد “داعش” وظلالها.
وبغض النظر عن تفاصيل المعركة ضد “داعش” في سوريا والعراق، فإن الثابت أن طردَ التنظيم القاعدي يتمّ على يد القوى السُنّية في البلدين (العشائر في العراق وتنظيمات المعارضة في سوريا)، على نحو يشير إلى مدى توق البيئة السُنيّة للقضاء على ظواهر التطرف التي تلتصق وتنمو اصطناعيا على ضفاف حراكها.
الأزمة أبعد من تفاصيل هذه الأيام. أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون أدرك ذلك وحمل الأمر إلى بغداد، ألا “عالجوا أسباب العنف من جذورها”.
لا تعيش “داعش” في أي تسوية سياسية عادلة تعالج علل العراق وإخفاقاته منذ عام 2003. فلن يُخرجَ بعض السُنّة داعشهم، ولن تضطر بغداد لاختراع داعشها.
ثم أن “القاعدة” التي طردها الأنباريون من محافظتهم قبل أعوام، لم تكن لتجد، من جديد، بيئة حاضنة أو موطئ قدم، لولا أن القبول بالمرّ يعود إلى ردٍّ على ما هو أكثر مرارة.
صحافي وكاتب سياسي لبناني