لاشك ان ما حدث في الكرادة/بغداد قبل ايام و وتبعاته المستمرة في أنحاء متعددة في العراق توحي و كأن ماكينة اعادة دورة اخرى من الفراغ السياسي قد وصلت مرحلة متقدمة بحيث ان أحسن الحلول يكمن في اللا حل… او اللا دولة… اي ان الأمور تبدو و كأن مشروع بريمر الذي جاء به الأمريكيون بعد احتلال العراق سنة 2003… و اعني به مشروع ازالة أسس الدولة العراقية…. عاد لينتعش من جديد…و هذه المرة باختيار تيارات و قوى شعبية و علمانية و تقدمية… الخ بالاضافة الى القوى الرجعية و الدينية و التقليدية ( التسميات جزء من الخطاب السياسي الذي يتسابق مع الميكانيزمات التدميرية الاخرى على الساحة العراقية )…!!..
يكاد العراقيون جميعا يتفقوا على ان الحكومة لا تحكم و ان مؤسسات الدولة إنما هي املاك عائلية و أوليغاركية لطبقة من الناس تنطبق عليهم كل التوصيفات التاريخية و الحديثة من الإقطاع و النخبوية و الطبقية … لكنها مجموعة المتحكمين في المجتمع العراقي تمتاز بميزتين مهمتين و هما … اولا…انها ناجحة جدا في استحداث أساليب متنوعة و متجددة من الاستيلاء على أموال الدولة و أملاكها و قدراتها…… و ثانيا….انها فاشلة في الحفاظ على ديمومة عمل و وظيفة الدولة كنظام عام … فالدولة التي تشكلت بعد الرحيل العسكري للامريكان ما زالت في أحسن الأحوال هي صورة بدائية و هشة و غير مترابطة بين أجزائها و مخترقة من جميع المخابرات و الاستخبارات في العالم و من جميع الاطراف و المجموعات الميليشياوية و العسكريتارية و الكارتيلات الاقتصادية و الأشكال و النظم الاجتماعية التقليدية و الحزبية العراقية و العربية و الإقليمية و الدولية…
و لذلك فان الصراعات شديدة و موازين القوى تتغير باستمرار و هذا يزيد من مساحة الدمار و استنزاف الدولة و من حجم الضحايا بكل اشكالها و درجاتها الأمنية و الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و كذلك دوامة اللا استقرار و الأحداث التي لا يمكن التنبؤ بها لكثرة عدد الفاعلين و عدم إمكانية خلق اي نوع من التنسيق بين ” الأصدقاء”… كما لا يمكن معرفة الحدود بين من هو “صديق” و من هو “عدو”.. …
بناء على القراءة للواقع فقد كتبت بوست على الفيسبوك تعليقا على احداث الكرادة/بغداد ما يلي : ( عودة الانفجارات الدموية الى بغداد … هل هي عودة الى فتح الحدود بين “ما كان لداعش” و “ما كان للاخرين” بعد عمليات الفلوجة..؟؟.. و هل غادر الداعشيون الى “المجهول”… ام انهم دخلوا بيت “…”… بحثاً عن السلطان لا الأمان …؟؟؟..)… كان ذلك في يوم الأحد الماضي اي يوم وقوع حادثة الكرادة في بغداد…..بعد ذلك انتشرت نظريات المؤمرات و اصبح الكثيرون يتهمون الحكومة ليس فقط بالتقصير إنما ايضا بنوع من المؤامرة ضد الذات…
نعم لقد انتشرت هيستيريا مجتمعية بحيث ان الكثيرين يشعرون بإحساس رهيب بالهزيمة و الاحباط… بل ان هناك رعب ينتشر داخل النفوس من ان عمليات مشابهة لما حدث في منطقك الكرادة قد تحدث في اي مكان خاصة ان الأجهزة الأمنية الرسمية ليست فقط فشلت في تقديم اي توضيح علمي و معقول لما حدث…. بل ايضا ان الصراعات بين مختلف الأقسام و الأجهزة المختلفة و اصحاب القرار فيها… و التي كانت تجري سابقا في الخفاء بشكل او باخر… برزت الان الى السطح حيث لم يجد رئيس الوزراء بداً معه غير تغيير القيادات … و لا ادري ان كان الدكتور عبادي مقتنعا فعلا بان هذه الإجراءات السطحية ستغير من الأساس الهش و غير المهني لهذه الأجهزة … ام انه يحاول فقط الهروب الى الامام و تخفيف الضغط على الحكومة..؟؟..
و لكن هل يملك رئيس الوزراء اوراقاً اخرى في وجه الفوضى و دوامة و هيمنة هيستيريا التشكيك في كل شيء و الخوف من بعبع المجهول الذي يتعاظم شأنه كل يوم و يتمدد في كل ركن من أركان الدولة و المجتمع..؟؟… اعتقد ان هذا السؤال و هو سؤال بديهي جدا…. اصبح للأسف يشكل القاسم المشترك الذي تجتمع حوله اغلب القوى الموجودة على الساحة العراقية سواء كنّا نتحدث عن “الثورة المضادة” بفعل القوى التي خسرت سلطانها بعد الاحتلال الامريكي… او القوى التي تحاول الهيمنة بطرق شرعية “انتخابية” او عن تنظيمات ميليشياوية ….
و عليه فان ما يحدث الان هو ان قوى اخرى سياسية و مدنية … بعضها ليبرالية تؤمن بدور اقل للدولة على شاكلة الحزب الجمهوري في أمريكا…. و بعضها قوى قومية و وطنية ذو خلفيات عسكرية و كذلك قوى مؤدلجة اسلاميا و ماركسيا و عروبيا…. و هي قوى تؤمن تاريخيا بدور كبير و واسع للدولة…كلها تحاول حثيثاً …بوعي او بغير وعي…. ان تزيل الاسس المبسطة و الهشة لدولة ما بعد الاحتلال الامريكي المباشر…. و الحل عند الكثير من هذه القوى هو اعادة تدويل العراق…. اي العودة الى نقطة البداية عند الاحتلال الامريكي سنة 2003….. و لا ادري اية رؤى يمكن ان تظهر في حالة اعادة الاحتلال/التدويل…. و هل لدى اي من هذه القوى فكرة عن كيفية بناء دولة بديلة تستطيع “بضربة ساحر” ان تعيد هيكلة المجتمع العراقي المتفكك حتى النخاع… و اعادة الهدوء و السكينة الى النفوس التي غاص في أعماقها كل العداوات الجاهلية و التأويلية الدينية و أمراض العصر التكنولوجي و العولمة الثقافية و الانفصام المجتمعي حتى اصبح لا يعمل الا وفق مبدأ الانتقام و الانتقام المقابل … و لا يسمع له صوت عن السماحة و الرحمة و الجيرة و الإخوة …الخ من القيم الاخلاقية التقليدية … و لا عن قيم التضامن و العيش المشترك و السلام و الأمن .. الخ ..؟؟؟؟…
لا ننسى ان الكثير من هذه القوى كانت تحشد امكانياتها ضد الحكومة في وقت كانت الحكومة تعد العدة ثم و بشكل مباشر تدخل في الصراع ضد داعش في مناطق عديدة شمل و غرب بغداد … و رغم ان التظاهر حق مدني لا غبار عليه و الوقوف في وجه الفساد و سرقة إمكانيات المجتمع يرقى الى واجب انساني قبل ان يكون وطنيا و سياسيا… الا ان كل هذا لا يلغي السؤال المنطقي و هو كيف يمكن لحكومة ان تجلس و تفكر في إدارة الحرب بينما يقف “أصحابها و أقرانها” عند الباب و يطالبونها بالرحيل…؟؟.. ثم هل فكر احد في قاعدة أساسية عند خوض الحروب و هي ضرورة رص الصفوف و ان الفوضى ستترك “للعدو” ثغرات هائلة للدخول و القيام بعمليات تخريب…؟؟.. و اكثر من هذا… هل فكر احد ان هذه الفوضى ستعطي للكثيرين داخل المؤسسة الحاكمة الفرصة للتمرد او التعاون مع العدو او الهروب الى الى مصالحها و بيع الوطن…؟؟؟..
هذه التساؤلات و كثير غيرها هي في الحقيقة تساؤلات تقليدية جدا تثار في زمن الحروب…. لكننا ندرك تماماً تعقيدات المشهد العراقي و تداخل الحدود ما بينها بحيث لا يمكن تفكيكها أحياناً …. و ما اشرت اليه في كلامي في البوست على الفيسبوك عن اعادة التداخل بعد عمليات الفلوجة كان محاولة للتذكير بان تلك العمليات هدمت ما حاولت قوى سياسية عديدة في العراق توظيفه و هو وجود داعش لخلق نوع من الامر الواقع في تقسيم سياسي و اداري بين مناطق تابعة للحكومة و اخرى تابعة لقوى ترفض الاعتراف بشرعية دولة ما بعد الاحتلال الامريكي…
نعرف جميعا ان هذا التقسيم كان مرفوضاً من الحكومة و من القوى التي تتظاهر ضدها…. و كذلك من قوى دولية و إقليمية انبرت فجأة لإزالة دولة داعش…. ليس بسبب الطبيعة الهمجية لداعش و جرائمها…. بل لتحسين وضع تلك القوى الدولية و الإقليمية في الصراع على اعادة توزيع الحصص في الشرق الاوسط… فأزيلت الحدود بين داعش و مناطق الحكومة ليدخل جميع العراقيين في الاشتباك ضد الجميع…. و هذا هو الفوضى باللغة العلمية…. و الذي يدفع العراقييون جميعا ثمنا له بشكل او باخر… و لكن اخطر ما في القضية هي ازالة دولة العراق ايضا كما قد تزال دولة داعش… و هذا يعني مرحلة تاريخية طويلة من الصراع بين مشاريع داعشية متجددة… كانت فاعلة في السنوات 13 الاخيرة بشكل خفي حتى في ظل داعش …لكنها قد تظهر الان و تعلن عن نفسها تحت راية الدفاع عن اية مجموعة او قيم اجتماعية او ثقافية و هي كثيرة و متشابكة مع بعضها في المجتمع و هذا التشابك التاريخي يكفل ديمومة الصراع الى ما آجال طويلة….
أتوقف هنا و لنا متابعات لاحقة…. لكني على المستوى المجتمعي…. كنت أتمنى لو ان القوى المدنية و منظمات المجتمع المدني ظلت تزرع البلسم على جراح الناس بدلا من تحولها الى شوكة في الصراع على السلطة… حبي للجميع..