منعت الحكومة العراقية سنّة الرمادي من دخول عاصمة بلادهم بغداد. لو حصل هذا في دولة أخرى لاتهمت فورًا بالعنصرية وبممارسة التطهير العرقي. لكن الحكومة العراقية تتصرف كما يبدو بما تراه مستقبل العراق.. قالت بإرسال السنّة إلى كردستان، ومن هناك يتدبرون أمرهم، وكأن هذه النظرة إلى المستقبل تنطبق على سوريا أيضًا حيث سحب النظام جيشه من مدينة تدمر فدخلها 200 فقط من تنظيم داعش، وبعد ذلك تدفق اللاحقون ليرتكبوا المجازر.
قبل سقوط الرمادي حصل حادث غريب في الأعظمية في بغداد، حيث أحرقت منازل السنّة وممتلكاتهم أثناء عبور الحجاج الشيعة الجسر في طريقهم إلى الكاظمية مرقد الإمام الكاظم. الحكومة العراقية لم ترسل من يدافع عن الأهالي هناك.
بعد سقوط الرمادي تساقطت الاتهامات العراقية والإيرانية على الولايات المتحدة. في واشنطن بدا الارتباك واضحا: قبل سقوطها بأيام قال رئيس الأركان الأميركي الجنرال مارتن ديمبسي: «إن الرمادي مهمة جدًا للأمن القومي العراقي».. وبعد سقوطها قال الناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية: «إن الرمادي لا تشكل أي أهمية».. وبعد سقوطها أيضًا قال جون كيري، وزير الخارجية الأميركي، إنه واثق من أن الحكومة العراقية ستسترجع الرمادي بسرعة.. لكن وزير الدفاع أشتون كارتر قال الأحد الماضي على محطة «سي إن إن» إن الجيش العراقي لا يملك إرادة القتال.. ليعود جو بايدن، نائب الرئيس الأميركي وصاحب مخطط تقسيم العراق، ويتصل هاتفيًا بحيدر العبادي، رئيس الوزراء العراقي، مؤكدًا له دعم الولايات المتحدة في مواجهة تنظيم داعش.
تدرك واشنطن عدم وجود عامل حقيقي ومسؤول في العراق قادر على جمع كل الأطراف العراقية وإبقاء «داعش» بعيدًا. «داعش» هزم الجيش العراقي مرتين. أيضًا في وسط العراق السنّي حيث «داعش» فرض القتل والفوضى والدمار، لا يوجد دافع لقتاله. وإذا راجعنا منشورات «داعش» من قبل سقوط الموصل، فإنه يتهم السنّة بالخيانة، وبأنهم جزء من مؤامرة أميركية – إيرانية يقودها الشيعة على الأرض لقتل وطرد وتطهير العراق من السنّة. لذلك هناك بقايا إرادة سنّية للقتال، ثم إن الميليشيات الشيعية العراقية عندما استرجعت تكريت مثلاً وآمرلي فإنها تركت وراءها الكثير من القتل والدمار والسرقات، كما تؤكد تقارير الأمم المتحدة، وهذا لم يكسبها ترحيب بقية العراقيين خصوصًا السنة العرب.
قال قاسم سليماني، رئيس «وحدة النخبة» في «الحرس الثوري الإيراني» والمسؤول عن حماية مصالح إيران في الخارج، إن الرئيس الأميركي باراك أوباما لم يفعل أي شيء لمواجهة «داعش»، وهذا يعني أنه لا إرادة أميركية لمقاتلة التنظيم (ردًا على أشتون كارتر). ما قاله سليماني صحيح، ذلك أن بغداد بطلب من إيران لا تريد مشاركة سنّية في الحكم.
السؤال الآن: هل الحكومة العراقية و«الحرس الثوري الإيراني» يريدان استرجاع كل العراق، ويريدان فعلاً إلحاق الهزيمة بـ«داعش»، وطرده من الموصل والأنبار؟ الجواب عن هذا: كلا. لأن الطرفين يسيران نحو بلقنة العراق، وبرز هذا جليًا في مصير سنّة الرمادي الذي ظل معلقًا على جسر لا يؤدي إلى أي أمل.
من المؤكد أن الطرفين يحسبان أن المنطقة الشيعية ستكون وسط العراق، بما فيه بغداد العاصمة والمناطق الجنوبية، وهمهما إبقاء «داعش» بعيدًا عن هذه المناطق.
الجميع يعرف، لكن الجميع يرفض الاعتراف، فهناك انقسام مذهبي في العراق، وبدأت أميركا تعترف بالواقع، والارتباك يكشف أنها تبحث عن وسيلة لإظهاره. هناك الكثيرون في المؤسسة العسكرية، خصوصًا الذين خدموا في العراق، متأكدون من هذا الانقسام المذهبي الذي بدأ يتعمق. لقد عادت واشنطن (بعد تجربة الجنرال ديفيد بترايوس) تدرك أهمية القوة السنّية للتخلص من «داعش»، على أن تكون لاحقًا قوة للاستقرار. لكن أمام هجوم «داعش» لا يوجد وقت لتجنيد أو تدريب أو بالأحرى الإقناع لحمل السلاح، وحتى لو جرى ذلك فلن يكون ناجحًا على المدى المتوسط، لأن بغداد مصرة على التدخل في تشكيل هذه القوة وعرقلتها، كي لا يتسلم السنّة العراقيون السلاح. لقد أضاعت إدارة أوباما فرصة تاريخية عندما لم تسلح السنّة في العراق قبل انسحابها، فتركتهم تحت رحمة رجل مثل نوري المالكي، لأن أقصى ما حققوه كان إدارة مناطقهم بقوات أمنية محلية، ولكانت محافظات الأنبار وديالى وصلاح الدين تعيش الآن حالة استقرار.
رئيس الوزراء حيدر العبادي يريد الآن بدل احتضان السنّة العراقيين قوات أميركية. وتصريحات سليماني تصب في هذا الاتجاه. لكن أوباما، الذي وصل إلى الرئاسة على بطاقة سحب كل القوات الأميركية من ساحات القتال، لن يجرؤ على إغراق ما تبقى من رئاسته في هذا المستنقع، وبالتالي لن يجرؤ الرئيس الأميركي المقبل على هذا الالتزام.
من المحزن أن دولة العراق صارت مجرد اسم، لأنها على أرض الواقع غير موجودة. بدا مستغربًا العبادي وهو يقول لتلفزيون الـ«بي بي سي»، مساء الأحد الماضي، إنه خلال أيام سيستعيد الرمادي، وإن قلبه يدمي لسقوطها.
يروي جنرال كردي كان في عداد الجيش العراقي في الرمادي، أن خيانة كبرى وقعت من قبل «قيادة العمليات الخاصة» (شكلها الأميركيون زمن نوري المالكي)، وأنه قبل يومين من هجوم «داعش» وصلتهم معلومات دقيقة بأن «قيادة العمليات الخاصة» تركت مواقعها في الرمادي. أبلغ هذه المعلومات إلى العبادي الذي تأكد لاحقًا من صحتها، لكن لا سلطة لرئيس الوزراء أو لوزير الدفاع على هذه القيادة. ويعتقد الجنرال الكردي أن الوحدات الشيعية في الجيش أقدمت على الانسحاب لإحراج العبادي وبالتالي إسقاط حكومته.
بعد سقوط الرمادي قال هادي العامري، قائد «منظمة بدر»: «حذرنا المسؤولين في بغداد، وقلنا لهم عندما تسقط الرمادي فإن بغداد وكربلاء ستكونان في خطر. في ذلك الوقت طلبنا منهم تحريك الحشد الشعبي» إلى هناك لحمايتها من «داعش».
إذن ميليشيات «الحشد الشعبي» صارت العصب القتالي لبغداد، أي «باسدران العراق». وهنا لا بد من الإشارة إلى تكريت التي زارها رئيس الوزراء واعتبر تحريرها انتصارًا وبداية لتدمير «داعش». إذا عدنا إلى الوراء نلاحظ أن الميليشيات الشيعية كانت نحو 30 ألفًا مطعمة بـ5 آلاف جندي، احتاجوا إلى 3 أسابيع لقتال ما لا يزيد على ألف من «داعش»، وهذا بعد 12 محاولة فاشلة. لكن العامل الرئيسي لاستعادة المدينة كان الغارات الأميركية. لكن الرمادي ليست تكريت. إنها القلب الاستراتيجي للعراق السنّي. وهي على بعد 108 كيلومترات من بغداد، ومحافظة الأنبار تحاذي أطراف كربلاء. حسب المحللين العسكريين فإن «داعش» لن يقتحم بغداد، لا قوة برية كافية لديه. سيستعمل الرمادي والمناطق التي تشكل حزامًا حول بغداد لشن عمليات إرهابية، أو إرسال سيارات مفخخة. هو يريد إبقاء الحكومة العراقية في حالة دفاع.
«داعش» يتقدم. خسر تكريت فظلت مهجورة، واحتل الرمادي بعد احتلاله تدمر في سوريا. كل هذا يعني أن الاستراتيجية لإلحاق الهزيمة به فاشلة، ثم مع إعلان «بوكو حرام» الولاء للتنظيم صار له وجود في أفريقيا، وهو يتمدد في ليبيا واليمن ويتسلل إلى غزة وسيناء، ويقول الغرب إنه حجّم تقدم «داعش»، وتقول كل من بغداد ودمشق إنها ستقصف والتنظيم سيتقهقر، والمتشددون مستمرون في إعلان ولائهم للتنظيم. في المقابل، ومع عراق مفكك، تستمر إيران في تثبيت نفوذها فيه، وتمدد هذا النفوذ إلى لبنان، وسوريا واليمن، ودول أخرى في الشرق الأوسط.
لو كان هناك عراق قوي وموحد لأجبر إيران على البقاء داخل حدودها، ولما كان هناك «داعش» الذي صار مشكلة عالمية، ولم يعد مشكلة إقليمية، لذلك إذا أراد جو بايدن دعم الحكومة العراقية فعليه إقناعها بإعطاء المحافظات السنّية حكمًا ذاتيًا مع تشكيل قوة أمنية محلية وحكومة سنّية إقليمية لديها برلمان.
بعد خيانتهم من قبل المالكي، يريد السنّة العراقيون أن يكونوا أسياد مصيرهم وأبنائهم ومناطقهم، عندها يقررون محاربة «داعش». الآن هم يهربون من «داعش»، والأخطر أنهم لن يثقوا بالحكومة العراقية!
نقلا عن الشرق الاوسط
-
بحث موقع مفكر حر
-
أحدث المقالات
-
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلاميةبقلم صباح ابراهيم
- ستبقى سراًبقلم عصمت شاهين دو سكي
- #إيران #الولي_الفقيه: تأجيل قانون العفة والحجاب… ما القصة؟!بقلم مفكر حر
- إشكالية قبول الأخربقلم مفكر حر
- موسم إسقاط الدكتاتوريات في #الشرق_الأوسط!بقلم مفكر حر
- ردود فعل مسؤولي #النظام_الإيراني على #سقوط_الأسد: مخاوف من ملاقاة نفس المصيربقلم حسن محمودي
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **بقلم سرسبيندار السندي
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **بقلم سرسبيندار السندي
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **بقلم سرسبيندار السندي
- ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.بقلم مفكر حر
- ** تساءل خطير وحق تقرير المصير … هل السيّد المَسِيح نبي أم إله وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- ابن عم مقتدى الصدر هل يصبح رئيساً لإيران؟ طهران مشغولة بسيناريو “انقلابي”بقلم مفكر حر
- ** ما سر تبرئة أل (سي .آي .أي) لبوتين من إغتيال نافالني ألأن **بقلم سرسبيندار السندي
- المجزرة الأخيرةبقلم آدم دانيال هومه
- ** بالدليل والبرهان … المعارف سر نجاح ونجاة وتقدم الشعوب وليس الاديان **بقلم سرسبيندار السندي
- رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسيةبقلم طلال عبدالله الخوري
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلامية
أحدث التعليقات
- منصور سناطي on من نحن
- مفكر حر on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- معتز العتيبي on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- James Derani on ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **
- جابر on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- صباح ابراهيم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **
- الفيروذي اسبيق on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- س . السندي on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- عبد الحفيظ كنعان on يا عيد عذراً فأهل الحيِّ قد راحوا.. عبد الحفيظ كنعان
- محمد القرشي الهاشمي on ** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسية
- صباح ابراهيم on ** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :