اكرم هواس
ان نتحدث عن ازمة في الوضع العراقي ربما يعتبره البعض اضحوكة… فكل شيء في العراق هو ازمة… و ما مشكلة البطاقة التموينية الا واحد من اوجه كيان هائل يجثم على صدر الجميع… انه العجز التام… و لنبدأ بشيء من الوصف.. الذي ربما يصدم البعض و يجعل اخرين يتنفسون الصعداء و ربما يتندر بعضعهم على بعض… قبل ان نعود الى شيء اخر… تقييم علمي… او هكذا ادعي…
مخيال الازمة..
نعم… العراق كله ازمة… حتى غدا اسمه و هويته و جغرافيته و سيادته… شعبه…شعوبه..اكثريته..اقلياته… رجاله.. نساؤه.. اطفاله… شبابه… شاباته… اخلاقه… اخلاقيته…عزمه…عنفوانه.. تخاذله.. حبه.. خيره… شره…تراثه…حاضره.. ماضيه… مستقبله… نعم كل شيء في بلد الحضارات و النور و العلم و القانون… ازمة تولد ازمة… حتى اصبحت الازمة قرينا للعراق… ينام و يصحى عليها العراقيون… الذين يتعجبون … بل يحنون… اذا اشرقت الشمس يوما دون اصوات الانفجارات و ازيز الرصاص و نتانة رائحة الازبال و القمامة المتراكمة في كل مكان و الفساد الذي اصبح ثقافة عامة و نظاما للحياة..
الجميع ..نساء و رجالا… و هنا اتحدث بصيغة المذكر… ليس انتقاصا من دور النساء و لا اخلاء لسبيلهن من المسؤولية… و لكن… في المجتمع العراقي…. مثل الكثير من المجتمعات الاخرى… الرجال هم الطاغون…لذلك المعنى هو ان الجميع..شاؤوا ام اباؤوا… اصبحوا مدمجين مهجنين في نظام العجز …الكسبة و العمال و الفلاحون… التلاميذ و الصناع و الزارعون.. الاغنياء و الفقراء و السائلون…البسطاء من الناس و العلماء والمثقفون…الكسالى والمفكرون و المبدعون…القوميون و الو طنيون و الطائفيون… و المتحزبون و الدجالون و السياسيون و الاقتصاديون و علماء الاجتماع و الرياضيون و الفنانون.. المنتمون الى هذا الدين او ذاك.. الليبراليون و الماركسيون… المتدينون و العلمانيون…المؤمنون و الملحدون… الحالمون و القانطون…الصادقون و الكاذبون… الشرفاء و و اللصوص و السراق و الفاسدون والنخاسون… المدافعون عن الوطن و القيم و البائعون..الفرحى و الباكون و النائحون… النائمون و المستيقضون…الابطال و المتأمرون..و الرؤساء و المرؤوسون.. كلهم عاجزون.. عاجزون… و يا ليتهم اعترفوا انهم عاجزون…
و بلغة العلم.. فان العراق… بلد الخيرات تاريخيا والذي تتدفق مليارات امواله في كل اتجاه الا في ما يخفف عبء الفقر و العوز عن الملايين من شعبه…اصبح يمثل واحدا من اعظم النماذج في خلق الاليات ليس في التنمية المستدامة… كما يدعي البعض… و يصدح حناجر الاخرين بها… و انما ازمة مستدامة… نعم هكذا ازمة مستدامة… يعجز الجميع عن الخروج منها..
اهم دليل على ذلك هو ان الحكومة كلما حاولت ان تخطو باتجاه حل اية ازمة مهما كانت صغيرة فانها تجد سرعان ما تجد نفسها انها تعمق الازمة… و لعل ما يتحدث عنها هذه الايام عن ازمة البطاقة التموينية هو مثال بسيط و لكنه كبير… كبير على الملايين من العراقيين..
ملاحظات اولية..
في هذه المقالة الصغيرة التي لا تستوعب عظم الازمة فاننا نحاول ان نلخص بعض الامور في نقاط و ملاحظات علنا نتذكر و نذكر… اولا.. ان الصورة مشوشة حول حقيقة قرار مجلس الوزراء بوقف البطاقة التموينية و الاساس التنموي لمثل هذا القرار… هناك كلام عن ان احد الوزراء هو الذي اقترح و اقره الباقون من الوزراء… و حتى لا نظلم احدا بل نبدي حسن الظن.. فلنفترض ان هذا الوزير و كذلك زملاؤوه الاخرون كانوا يهدفون فعلا الخروج من دوامة الفساد فان المشكلة الاساسية هي ان رؤية هؤلاء جميعا اغفلت مجموعة كبيرة من الاليات الواجب توفرها في البديل المطروح في منح مبالغ نقدية الى الافراد و منها كيفية التوزيع و التضخم…
المشكلة الاساسية في هذا القرار هو تخلي الدولة عن مسؤوليتها تجاه مواطنيها… و حتى اكون دقيقا فيما اقول… فان المشكلة تكمن في عدم توفير اية ضمانة تجاه ديمومة تمكين العراقيين و خاصة الطبقة الفقيرة من ايجاد ما يأكلون بعد رفع البطاقة التموينية… فالناس تأكل المواد الغذائية و ليس النقود و اذا لم تتوفر المواد الغذائية فان المواطن لا يمكنه ان يذهب صباحا و مساء ليشتري هذه المواد من الولايات المتحدة او الارجنتين او كندا او استراليا او روسيا … و هي بعض اهم الدول الزراعية و خاصة للقمح الذي لم يعد يزرع في العراق… و حتى تستطيع الشركات الخاصة من توفير هذه المواد الغذالية فلابد من تدخل الدولة لتوفير ضمانات للاسعار و التوزيع و النوعية… الخ…هل يتضمن قرار مجلس الوزراء مثل الضمانات..؟؟.. ام انه بداية لتحرير الاسعار كما تطالب المؤسسات المهيمنة على الاقتصاد العالمي مثل البنك الدولي و صندوق النقد الدولي الذين يفرضان هذه الاجراءات كشروط لمنح الديون..؟؟
ثانيا… انه من المجحف ان يضطر بلد يمتلك المليارات من الاموال و اللاراضي الزراعية و تجارب الاف السنوات من الزراعة و الاف العلماء و الاقتصاديين مثل العراق الى استحصال ديون من المؤسسات الدولية… و كذلك من سخرية القدر ان يتم الركون الى البطاقة التموينية لتوفير الحد الادنى لتوفير لقمة العيش لشعب هذا البلد الغني… من المؤكد ان المسؤولية في هذه المشكلة لا تتحملها الحكومة لان المشكلة هي حصيلة تراكم العديد من العوامل من الحروب و الصراعات و كذلك اختيار النظم التنموية و منها تدمير القدرة الزراعية ( ترك الاراضي الزراعية… اختيار مشاريع غير مضمونة… سوء الادارة و التنظيم… هجرة القوة البشرية الزراعية الى المدن) و التركيز بدلا من ذلك على بناء صناعي غير قابل للنجاح لانه لم يتوافق مع الاسس الاجتماعية و الخبرة التاريخية و الاحتياجات الحقيقة للبلد ( هذه بعض العوامل فقط)…
مسؤولية الحكومة و البرلمان و كل المتحكمين و اصحاب المصالح الان هي في اعادة النظر في الاولويات و الاليات… و حتى لا ابتعد كثيرا عن المسألة التنموية اذكر عاملا مهما و هو… انه بدلا من الاستسلام لشروط البنك الدولي و صندوق النقد الدولي … كان لابد من التوصل الى ترتيبات مع تركيا و ايران و سوريا … و هي الدول التي قطعت الماء عن العراق و قضت على اخر الامكانيات الزراعية… ربما يفهم هذا الكلام و كأنه نوع من الهروب الى الامام في ظل الظروف الراهنة من صراعات و حروب مفتوحة… و لكني اتحدث عن السنوات القريبة السابقة قبل اندلاع الثورات العربية … الخطأ القاتل الذي وقع فيه العراقيون هي انهم لم يتعلموا من تجارب السنوات الطويلة من المفاوضات مع تركيا و سوريا على اساس الاتفاقيات الدولية و التي لم تؤدي الى اي شيء لسبب بسيط ان هذه الاتفاقيات متروك امر تفعيلها للاتفاقيات و المعاهدات الثنائية بين مختلف الدول و ليس فيها ضمانات دولية من عقوبات او ما شاكل…
القضية الثانية التي لم يفهمها العراقيون هي تطور النظام التنموي في تركيا… فمنذ مشروع الكاب في بداية التسعينات من القرن الماضي اطلق الرئيس التركي انذاك سليمان ديميريل شعار ( النفط مقابل الماء) و لكن العراق لم يفهم تلك المعادلة الجديدة و ظل يصر على الاتفاقيات الدولية التي تجاهلها الاتراك تماما باقامة مشاريع جديدة منعت الماء من التدفق عبر دجلة و الفرات بشكل شبه كلي.. لاحقا فعل السوريون ذات الشيء مع ما بقي من ماء نهر الفرات و منذ سنوات فعلها الايرانيون و استـاثروا بمياه الزاب و سيروان و الكارون… النتيجة هي تحول العراق من ارض زراعية تاريخيا الى صحراء لا تنتج سوى العواصف الترابية التي لا تنقطع طوال السنة و التي تكاد ان تقضي على اسس الحياة كلها في ارض الرافدين..
ثالثا… ان تجربة الاستعاضة عن البطاقة التموينية بمبالغ نقدية هي ليست جديدة فقد جربتها بعض الدول… بعضها حققت نجاحا نسبيا بينما ان اقرب تجربة للعراق هي التجربة اللايرانية التي لم تحقق شيئا طبعا ايضا بسبب الظروف السياسية و لكن الكثير من الاقتصاديين الايرانيين وجهوا انتقادات جوهرية لبرنامج الرئيس احمدي نجاد التي اظهرت حماسة للوقوف بجانب الطبقة الفقيرة اكثر من ايجاد الاليات الفعالة لكيفية مساعدة الفقراء…
المهم… في فترة بداية القرن الجديد كان هناك ايضا اهتمام ايراني و ربما مفاوضات بين ايران و المؤسسات الدولية لكن لا استطيع باي شكل ان اؤكد او انفي تورط هذه المؤسسات في فرظ رؤيتها التنموية على ايران… كما اننا نجهل الان حقيقة القرار العراقي و ارتباطه المحتمل بالشروط المجحفة للمؤسسات الدولية… و على هذا الاساس كان لابد لصانع القرار العراقي من التعلم من التجربة الايرانية لتقارب الظروف السياسية و الاجتماعية بدلا من تجارب دول اخرى…
رابعا و اخيرا… بعيدا عن المصالح السياسية للهيمنة على العالم فان الاسس التنموية لشروط المؤسسات الدولية تمتاز بمنطق تنموي صحيح نسبيا… الفكرة الاساسية وراء تحرير الاسعار و رفع دعم الدولة عنها هي تفعيل دور الفقر و الحاجة و تحويلها من قيمة سلبية تؤدي الى تقوقع الفئات الفقيرة الى قيمة ايجابية و ذلك عن طريق خلق الدافع للحراك و زيادة العمل و بالتالي استحصال زيادة في الاجور و هكذا تنشيط الدورة الاقتصادية و توسيعها لتشمل اغلب القطاعات في المجتمع…
لكن هناك على الاقل مشكلتان اساسيتان… احداهما تتعلق بالتجربة التاريخية التي تعود الى الحلم الاميركي و التي رغم نجاحها الباهر في خلق اعظم نظام اقتصادي و صناعي و زراعي في العالم الا انها تركت دوما قطاعات واسعة من المهمشين و الفقراء… يكفي اننا نقول ان المجتمع الامريكي احتوى ما يزيد على اربعين مليون فقير قبل حربي افغانستان و العراق و من ثم الازمة الاقتصادية التي ساهمت في زيادة هذا العدد…. الصين تمر بهذه التجربة ايضا الان و هي تحقق نجاحات باهرة على المستوى العالمي لكن لا يلغي حقيقة ان من نتائج هذه التجربة هي خلق شرخ واسع في البنية الاجتماعية الاقتصادية في المجتمع الصيني و ظهور الحيتان الصينية على حساب الملايين الذين يزدادون فقرا…
المشكلة الاخرى… تتعلق بضرورة وجود مؤسسات دولة او خاصة تتحكم بحركة الموارد بحيث انه يتم خلق دورة اقتصادية قابلة للتطور و التطوير… هذا كان متوفرا في ظروف الولايات المتحدة بسبب عزلتها الجغرافية و تاريخها الاستعماري الحديث… النجاح الراهن للتجربة الصينية تستند ايضا الى توع من الاستعمار تتمثل في امتداد جغرافي-اقتصادي خارج اطارها الوطني… اما العراق فلا يتمتع باي نوع من هذه الامتيازات… بل يعاني من اقتصاد تابع و حكومة ضعيفة و قطاع اقتصادي خاص ليس له اي دور لا محليا و لا خارجيا…
في النهاية… اود ان اعود ما بدأت به المقالة حول مسؤولية الجميع… ليست هناك حكومة تستطيع ان تخلق المعجزات الا اذا كان الشعب يمتلك المقومات… الشعب العراقي يمتلك الكثير لكنه يفقتر الى اشياء اخرى منها انه في بحثه عن امجاد جديدة فانه يبدي استعدادا غير مبرر بل و مدمر للافراط باستقلاليته الحضارية … هذا يفسر بشكل او بأخر… انقياده وراء حكومات لا تفكر…