المقال يعبر عن رأي الكاتب
لا أعرف لماذا يجب على إبن الرباط الذي تبعد مدينته عن عاصمة الأديان اورشليم 4000 كيوملترا أن يعادي الدولة العبرية. ولا أدري لماذا يجب على السوداني الذي لا تربطه باسرائيل أي رابطة أن يعادي هذه الدولة. إنما الذي أعرفه وبالتأكيد أنّ المد القومي الذي قاده عبد الناصر وتابعه صدام والأسد الأب وما زال يتابعه الأسد الأبن هو الذي أوحى للعرب بهذا العداء.
د. أمل عبد العزيز الهزاني، نشرت في صحيفة الشرق الاوسط الصادرة بلندن في 5 شباط/ فبراير 2013 مقالا ردت فيه على هجمة شرسة تتهمها بالتطبيع مع إسرائيل، في هذا المقال أشارت بالقول” كان مأخذي أن العرب يتغطرسون، يترفعون عن معرفة عدوهم حتى لا يضطروا للاعتراف بوجوده”.
أقف مع الكاتبة عند هذا المقطع وأتساءل بدءا لماذا يعادي العرب إسرائيل أصلا؟
اذا كانت ثمة مشكلة في المنطقة ، فهي مشكلة تاريخية قائمة بين مكونات فلسطين نفسها، العرب من جهة واليهود من جهة. وهذا يرسم حدودا واضحة لأزمة تنحصر في حدود الدولتين التي يجري الحديث عنها.
لم يخرج العرب على مدى تاريخهم من دائرة الحروب والصراعات المستمرة، حروب مع جيرانهم، وحروب بين بعضهم البعض، بل وحتى حروب بين مكونات نسيجهم الإنساني، وهم اليوم يجنون نتائج تلك الحروب، ولننظر الى المشهد السياسي في الشرق الأوسط اليوم:
دول تحتضر
تونس بعد “الثورة السلمية” تسير سراعا الى التمزق المجتمعي، بل أضحت اليوم خزانا يمد تنظيم القاعدة بالعناصر الإنتحارية والإرهابية كما أشار الباحث التونسي صلاح الدين الجورشي، في حديث نشر في ‘يونايتد برس أنترناشيونال’ معتبرا أن” هذا بات يُشكل تحديا بالنسبة للإنتقال الديمقراطي في تونس”. وأثبت اغتيال الزعيم الليبرالي شكري بالعيد مدى انقسام المجتمع التونسي.
في مصر المشهد أكثر تعقيدا، فالمجتمع مقسّم بين مسلمين وبين أقباط. بين المسلمين هناك أغلبية تتشبث بالإسلام السياسي وترى فيه وسيلة الخلاص سياسيا ومجتمعيا. فيما تقف الكتل المنضوية تحت وصف الطبقة الوسطى والقوى الليبرالية والعلمانية والديمقراطية على الضد وهي تنظر بمرارة الى مجتمع بنته منذ عهد محمد علي ، يتآكل فجأة وينهار.
سوريا وهي الأقرب جغرافيا الى إسرائيل، تحافظ اليوم على نسيجها بمدافع ودبابات بشارالأسد ، وقد ينقسم المجتمع فيها الى علوي تدعمه إيران وفصائل مسلحة من اليسار الفلسطيني وحزب نصر الله وتسنده روسيا والصين دوليا ، و سني سلفي إسلامي تدعمه السعودية وقطر ومصر( وربما حماس) ، وكردي تدعمه كردستان العراق واكراد تركيا وايران ، ويبدو الغرب مترددا في إعلان دعمه الصريح لهذا المشروع.
العراق الذي أخرجه التحالف الدولي من نير الإستبداد البعثي الطوباوي وديكتاتورية صدام حسين الدموية، تتصارع اليوم مكوناته متباغضة تبحث عن الاستقلال، بأغلبية شيعية تستمد دعمها من إيران، وأقلية سنية تستقوي بالسعودية وقطر والجارة المتأسلمة تركيا، وإقليم كردي يتشكل بثقة كنواة لدولة كردستان الكبرى .
ولا أريد ان أذهب الى تفاصيل دولتي السودان وبقايا دولتي اليمن وليبيا التي تمزقت الى مناطق قبلية مسلحة تصدر الإرهاب الى مالي والجزائر وكل العالم، والصومال وموريتانيا المنقسمة بين أسياد وعبيد والمغرب التي تصارع الصحراء والأمازيغ والبوليساريو، ولبنان المتنازع الى الأبد مع نفسه و القائمة تطول.
إسرائيل نقطة الضوء الوحيدة في منطقة غارقة في العتمة
إزاء هذا المشهد المثقّب المهلهل، نلتفت الى إسرائيل التي ما زال بعضهم يردد بشكل ببغاوي انها ” العدوة اللدودة”.
تشكلت مكونات اسرائيل في الشتات بما يسمى بالعبرية ( أيدوت) ، ثم انصهرت المكونات المتباعدة جغرافيا لتصبح خيوطا في النسيج المجتمعي بات يعرف ب:
• ” أشكنازيم” أي يهود المانيا وفرنسا.
• “سفارديم ” أي يهود اسبانيا.
• ” اليهود المشارقة ” القادمون من آسيا وافريقيا، ويتحدر قسم منهم من بابل القديمة .
• “صبرا ” وهم الذين ولدوا في إسرائيل من والدين مهاجرين “اوليم”.
• الاقليات غير اليهودية من العرب و الدروز والبهائيين.
• يتعايش في اسرائيل نسيج ديني يضم اليهود والمسلمين والمسيحيين.
هذا التنوع الذي قد يبدو متباعدا ، نجحت الدولة العبرية في أن تحتويه ضمن دولة ديمقراطية تحكمها قوانين علمانية. كما نجح الساسة وعلماء السياسة والإجتماع اليهود في أن يجعلوا من هذا التنوع سببا لقيام دولة متنورة منفتحة على العالم والعلم، وتسير قدما الى أمام . بل أن كثيرأ من من المثقفين المتنورين العرب والأتراك والإيرانيين ، يرون في إسرائيل اليوم نقطة الضوء الوحيدة في منطقة غارقة في العتمة.
دولة مؤسسات لا تهزها انقلابات العسكر
السلطة في إسرائيل تنتقل سلميا بين أحزاب تتشكل باستمرار وفق حاجات المجتمع . نظام الخدمة العسكرية وخدمة الاحتياط، يضمن للدولة العبرية توفيرا مثاليا للموارد البشرية، فالطبيب المتخصص، يعود الى الجيش حين يتهدد أمن بلده، ليضع خبرته في خدمة افراد جيش الدفاع. والمهندس كذلك، والمعلم، والممرضة والمذيعة، وهكذا.
من جانب آخر ، يمكن اعتبار هذا النظام صمام أمان يمنع تحول المؤسسة العسكرية الى ديكتاتورية مسلحة قد تنسف البناء الديموقراطي وتسرق السلطة من ممثلي الشعب. لذا لم نسمع قط خلال ستة عقود عن محاولة انقلاب في إسرائيل.
السطات مقسّمة في اسرائيل الى تشريعية يقوم بها الكنيست وهو مجلس النواب من ممثلي الشعب، فيما تقوم الحكومة المنتخبة بمهمات السلطة التنفيذية. وتتولى السطة القضائية (من خلال جهاز قضائي مستقل عن السلطتين ) تحقيق العدالة وفق قوانين ديمقراطية.
“لا تملك إسرائيل دستورا مكتوبا “
يتبجح القادة والزعماء العرب بأنهم يملكون دساتير مكتوبة ، فيما لا تملك إسرائيل دستورا مكتوبا تقيم عليه تشريعاتها، ويعللون ذلك برغبة إسرائيل في توسيع حدودها على حساب دولهم. لكن الموقع الألكتروني الرسمي للكنيست وفي صدر صفحة الدستور يعلن ما يلي:
لا تملك إسرائيل دستورا مكتوبا رغم أن إعلان الإستقلال قد ألّزم الجمعية التأسيسية بتهيئة دستور وجب أن يكون جاهزا في الأول من اكتوبر/ تشرين اول 1948. نجم التأخير في إعداد الدستور أساسا عن مشكلات قامت على خلفية التضاد بين دستور علماني وبين “هالاخا” أي القانون الديني اليهودي ( الشريعة اليهودية- الكاتب).
ولم أجد في أي بلد شرق اوسطي تشخيصا لمشكلة عميقة كتب بهذه العلانية والوضوح والشفافية. بل إن الدول العربية وتركيا وإيران ترفض حتى الإعتراف بمكونات أصيلة في نسيجها الاجتماعي، والأمثلة الأوضح على ذلك ، هي رفض تركيا وإيران وسوريا والعراق الإعتراف دستوريا بحقوق الأكراد، حدث ولا حرج عن حقوق اليهود في هذه الدول.
*كاتب عراقي