جورج صبرا: الشرق الاوسط
بعد أربع سنوات من عمر الثورة، أربع سنوات من الحرب المفتوحة التي أعلنها النظام على الشعب، يبدو النظام السوري – بوضوح كامل – أنه ليس ابن حياة. لم يسعفه الدعم الروسي المتعدد الأشكال، ولم تتمكن البروباغندا الزائفة والإمكانيات الكبيرة التي وضعتها إيران في خدمته من تلميع صورته وإعادة تأهيله؛ لأن الجرائم التي ارتكبها كمّا ونوعا، وحجم التدمير الذي ألحقه بالبلاد، غير مسبوق في تاريخ المنطقة، ولا مثيل له في سجل الطغاة والحكام القتلة. وقد بدأ بالفعل تأفف السياسة الروسية وتململها من المطب السياسي والأخلاقي والإنساني التي أوقعتها فيه حماقة النظام المستمرة؛ فليس لأحد أن يتمسك طويلا بنظام ذاهب إلى نهايته.
وفي الوقت نفسه يلحظ المتابعون لمجريات الثورة السورية – بوضوح أكبر – أنها غير قابلة للنكوص والارتداد، رغم الصعوبات الكبيرة التي تواجهها، والآلام المبرحة التي تتحملها. فليس للسوريين ما يخسرونه، ولم يعد لديهم ما يحرصون عليه غير حريتهم وكرامتهم وإرادتهم الموعودة. وقد برهنوا عن ذلك ببلاغة الشجاعة والاستشهاد التي بهرت العالم وأخجلته.
وتوازن الضعف الذي أدير بعناية، وحكم العلاقة بين الثورة والنظام خلال الفترة الماضية، غير مرشح للاستمرار. فتصميم الشعب واستعداده للتضحية من جهة، والتهتك المستمر للنظام ومؤسساته وأدواته وأجهزته من جهة أخرى، كفيلان بتغيير المعادلة. فلن تقبل الثورة بغير النصر، وليس للنظام إلا الرحيل.
ويبقى للقوى الإقليمية دور مميز لفكفكة الاستعصاءات القائمة، ومعالجة الأوضاع المركبة والمتشابكة في المنطقة، ومواجهة الاستحقاقات بإرادة جديدة وحازمة. فالتطرف والإرهاب وعدم الاستقرار وشهوة التسلط الإيراني الجامحة تهدد الجميع. فلا بد من تحولات مطلوبة، تحولات بالقول والفعل تكبح جنون القتلة، وتضع حدا للأحلام الإمبراطورية، وأحقاد التعصب الطائفي وضغائنه، وتمنع الفئوية العمياء من أن تستمر بمساعي الهيمنة.
فالخروج من الاستقطابات والمحاور التي أنهكت المنطقة، وانعكست سلبا على الثورة السورية، مطلوب بقوة. ومن المهم التمسك بالجوهر دون القشور، والدائم بدل المؤقت، والأكثر أهمية قبل المهم. وهو مطلوب من ثلاثية الدول التي تمتلك قوة الجذب وعناصر القوة، ألا وهي تركيا والسعودية ومصر. وهي قادرة على ذلك. فالتمدد الإيراني المتعدد الأشكال نحو البحرين المتوسط والأحمر، يستهدف، فيما يستهدف، ما تمثله هذه الدول من مرتكزات فعل وتأثير لاستقرار المنطقة بكاملها. ولا شيء يمكن أن يوقف هذا «الغزو» الإيراني الغاشم، والزحف الإرهابي البربري لـ«داعش» ومنظمات الإرهاب غير مثلث القوة هذا.
وعلى الصعيد الدولي، لم يعد مقبولا أن تبقى السياسة الأميركية مكبوحة خلف المحيط. فهي عندما تتردد أو تنكبح لا تقوم بذلك وحدها، إنما تؤثر على مجمل السياسات الدولية. تكبح بعضها، وتخذل بعضها، وتدفع البعض الآخر للتمدد والتطاول ومحاولة اقتناص الفرص. فمحاسبة السياسة التي اعتمدها المجتمع الدولي (وعلى رأسها السياسة الأميركية تجاه المنطقة) تبدو صارمة وقاسية، خاصة فيما يتعلق بالملف السوري. فقد قابلت الفرص المتاحة بتجاهل غير مفهوم وعجز مفتعل، ضاربة عرض الحائط بالعلاقات التاريخية بالمنطقة وحساسية التوازن فيها، ومنظومة القيم «الأميركية» التي طالما صدّعت رؤوس الناس بها، كالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. فهل يمكن لهذه السياسة أن تستمر على ضوء المشهد الجديد للشرق العربي والوقائع والأحداث التي تجري فيه؟!
يهيمن النفوذ الإيراني اليوم على أربع عواصم عربية. وتحارب ميليشيا قاسم سليماني (وبقيادته شخصيا على أرض سوريا والعراق) في الساحة الأكثر اشتعالا بين بغداد ودمشق. ويحاول حلفاؤه وإرهابيوه إمساك المضائق والممرات المهمة من قناة السويس إلى رأس مسندم، مرورا بباب المندب وموانئ بلاد الشام. ويحاصر جواد ظريف بملفه النووي منطقة النفط الأكثر أهمية لأوروبا والعالم. بل يحاول أخذها رهينة في مسار مفاوضات لا تثمر ولا تنتهي. ويعمل المتعصبون الإيرانيون وزبانيتهم على إشعال حرب مذهبية بين السنة والشيعة لا تبقي ولا تذر. فهل يبقى وضع كهذا مرشحا للاستمرار؟! وأي نتائج للحرب على الإرهاب التي تقوم بها «الحملة الدولية»، وتنتظم في صفوفها أكثر من ستين دولة؟!
وعلى الصعيد الوطني السوري والمعارضة السورية على وجه التحديد، تبدو التحولات المطلوبة أكبر أهمية وأكثر إلحاحا. فالحاجة ماسة لوقفة متأنية مع الذات، تتسم بالشجاعة والحكمة والمصارحة والنقد، لاستكشاف حصيلة بيدر الثورة، ومحاسبة الذات للذات، فردية كانت أو جماعية، فيما فعلته أو لم تفعله، فيما ارتكبته أو صمتت عنه. فلم يعد الصمت جائزا. وكي يتمكن المرء من مطالبة الآخرين بفعل ما يتوجب عليهم، فعليه أن يفعل ما يتوجب عليه أولا.
يأتي في أول التحولات المطلوبة تحقيق أعلى درجة من التوافق والتنسيق والوحدة بين قوى الثورة وفي إطار مؤسساتها. وحماية القرار السوري المستقل، مع إجراء أعلى درجة من التعاون والتنسيق مع حلفاء الثورة وأصدقائها وداعميها الإقليميين والدوليين. وإقامة صلة حيوية بناءة بين السوريين في الداخل والخارج، ومع الجاليات في المهاجر المختلفة.
إن تنمية الوجه المدني للثورة وإعادة إحيائه وإبرازه إلى واجهة الأحداث تحدٍّ كبير وصعب، لكن لا بديل عنه بعد تعسكر كل شيء في الثورة ومن حولها. ولا بد من استعادة الاحتشاد والمشاركة، وتحفيز روح التمرد والإبداع، وتعزيز منظمات المجتمع المدني والأهلي ونشاطاتها. وتشكل مظاهرات أهل بيت سحم وببيلا في غوطة دمشق في السادس من مارس (آذار) الحالي 2015 بمواجهة التطرف والعسكرة دليلا وهاديا للطريق القويم.
وأخيرا وليس آخرا، مطلوب وبإلحاح استعادة الثورة من المطارح الرمادية التي أخذت إليها، بالتوجه إلى جميع السوريين حيثما كانت مواقعهم، وكائنا ما كانت انتماءاتهم للمشاركة والانخراط في مشروع وطني جامع يواجه استمرار تدمير البلاد والعباد. إن معالجة الشأن السوري بالقطعة وبعيدا عن طموحات السوريين وإرادتهم أمر غير مقبول، ولا يصل إلى نتائج. فليس استقرار سوريا ومستقبلها فقط في الميزان، بل استقرار المنطقة ومستقبلها أيضا.
* رئيس المجلس الوطني السوري المعارض