أسرد عليكم القصة الآتية لتقارنوا لأنفسكم بين تقييم العالم المتحضر للجواهري العظيم وبين تقييم وزارة الثقافة في بلده:
في عام 1978، أثناء رئاستي لشعبة رعاية المصالح في واشنطن زارني في مكتبي المرحوم (الدكتور جورج عطية)
العربي الأمريكي الوحيد الذي ترأس قسم (الشرق الأدنى) في أكبر مكتبة عامة في العالم وأعني بها مكتبة الكونغرس
الأمريكي.
قال: إن المكتبة عازمة على تسجيل روائع الشعر العالمي المعاصر بأصوات الشعراء أنفسهم، تخليدا لهم، وذخرا للأجيال
القادمة. وبما أن القسم العربي من المكتبة يقع ضمن المنطقة الجغرافية المنوطة به (من الهند شرقا حتى المغرب غربا)…ولأن “الجواهري
شاعر العرب الأكبر” بحق، فإن المكتبة ترغب بالبدء به. وطلب مني استحصال موافقته الأولية، والموعد الذي يناسبه
لكي تبعث له المكتبة بدعوة رسمية مرفقة ببطاقات السفر.
ويبدو أن المطر كان عميما تلك السنة، فقد زارني في المكتب أيضا نائب رئيس (مؤسسة ديزني العالمية) التي كانت تخطط لبناء
مدينة جديدة لديزني في ولاية فلوريدا
(Walt Disney World)
بعد نجاح المدينة الأولى في لوس انجليس.
قال نائب المدير بأن مخطط البناء يشتمل على
(Epcot Center)
الذي سيحتوي على أجنحة لدول مختارة، قررت المؤسسة
أن يكون العراق على رأسها لأن أرضه مهد الحضارة الانسانية. وقال: أبشرك بأن تقديراتنا تشير الى أن عدد زوار المدينة سيكون
بالملايين، وأن العراق وآثاره ومراكزه السياحية ستنال شهرة واسعة.
تفهمت وزارة الخارجية أهمية الأمر فاستدعتني إلى بغداد لبحث العرضين مع أولي الشأن.
ما أن وصلت بغداد حتى اتصلت بالجواهري الكبير عارضا عليه الفكرة فرحب بها كثيرا وأخبرني بأنه يجب أن يعرض الموضوع
على وزير الإعلام بالنظر لعدم وجود علاقات دبلوماسية كاملة مع الولايات المتحدة، وأن رئيسا لشعبة رعاية المصالح يرأس البعثة
العراقية تحت علم الهند، ولا بد لرئيس اتحاد الأدباء العراقيين أن يستأذن حكومته للسفر الى بلد لا يقيم علاقات دبلوماسية مع بلاده.
وعندما زرت وزير الاعلام لتقديم عرض مؤسسة ديزني أبدى تعجبه من أن رئيس البعثة قطع آلاف الأميال ليعرض على حكومته
مشروع فتح جناح في شركة الجريدي والبزونة!! يقصد (توم وجيري)!! ومن الواضح أن السيد الوزير لم يعرف عن مؤسسة ديزني الهائلة إلا أحد أفلام الكرتون
التي تنتجهأ. شرحت له أبعاد التأثير الاعلامي الإيجابي الهائل الذي سينعكس على العراق، ولكنه لم يقتنع، وعاتبني على الاتصال بالجواهري
الكبير مباشرة، وليس عن طريق الوزارة!! فأعلمته بانه ووالدي صديقان منذ العشرينات وبينهما (أخوانيات شعرية).
وجاءت الصدمة الثانية حين أعلمني بأن أهم وأكبر شعراء العرب لن يسافر الى واشنطن ليعطي الأمريكان انطباعا بأن العراق على وشك
إعادة العلاقات معهم. وهكذا ضاعت فرصتين كبيرتين على البلاد جهلا بأهمية العرضين، وعنادا.
عندما اتصلت بالدكتور جورج عطية من بغداد معتذراً عن الجواهري تعجب كثيرا لعدم إدراك المسؤولين في بغداد اهمية مشاركة الجواهري
العظيم في هذا العرس العالمي، وقال بأن المكتبة لا تعود للحكومة الأمريكية ليقاطع فعالياتها وزير إعلامكم، بل الى السلطة التشريعية، ممثلة
الشعب الأمريكي المنتخبة هي التي تملكها وتديرها كما يدل على ذلك اسمها.
وما زال العالم الواسع يقدر الجواهري وتراثه، أكثر مما تفعل وزارة الثقافة في بلاده.