الطربوش.. حنينٌ الى الماضي .. أصله نمساوي.. وجاء به العثمانيون إلى العالم العربي
هناك مهن على وشك الانقراض لأن الزمن قد عفا عليها واصبحت (موضة قديمة) وهناك مهن اخرى اصبحت في طي النسيان لأن التقدم التكنولوجي قضى عليها، وهناك اسباب اخرى منها قلة العائد المادي للمشرفين عليها إذا ما قيست بالوقت اللازم لإنجازها.
ففي بعض المدن من بلاد الشام تروج بعض الحرف الصغيرة حيث يعود الصناع الى الطرق المستعملة في القرون الماضية، وصناعة الطربوش الذي كان احدى مظاهر الرجولة والأبهة ما زالت قائمة حتى الآن على نطاق ضيق وهي احدى الحرف المنقرضة والتي بدأ يسدل عليها ستائر النسيان بعد انتشار(الباروكة) لدى شباب اليوم.
ومما يلفت النظر الى تاريخ هذا الزي ان بعض الزعماء كانوا يفاخرون باعتماد الطربوش، وقد تضم خزائن بعض العائلات الكبيرة العدد الكبير منها.
وإذا ما عدنا الى ماضي الزمان حيث كان الاتراك يحكمون بعض البلاد العربية نجد ان ارتداء الطربوش والعمامة انتشر بين افراد الشعب وخاصة الوجهاء من كبار القوم.
ففي ايام الحكم العثماني كان الوجهاء يعتمرون العمامة الحريرية، وكانت تغرز فيها بعض الاحيان( الريشة) التي كانت تستعمل للكتابة او للتوقيع على الوثائق المهمة، ولكن في عهد السلطان عبدالحميد الثاني شاع استعمال الطربوش الذي يقال إنه من اصل نمساوي، والبعض الآخر من المؤرخين يقول ان الاصل يعود الى العثمانيين انفسهم، فهم اول من ارتدوه وذلك اواخر القرن التاسع عشر، وفي مطلع القرن العشرين اصبح ارتداء الطربوش موضة دارجة يتفنن بها الصناع، ويتفاخر بها الشباب والفتيات اضافة الى الشيوخ والعلماء، حيث يضع العلماء عمامة بيضاء ملفوفة عى الطربوش، وما زال الكثير من الشيوخ والعلماء يرتدونه حتى يومنا هذا، ويعود لهم الفضل بعدم انقراضه نهائياً.
وقد يختلف شكل الطربوش ومقاسه من بلد الى اخر، ففي سوريا ولبنان وفلسطين كان طويلاً واشد احمراراً منه في تركيا، وقد شهد الثلث الاخير من القرن العشرين العديد من الطرابيش ذات الشهرة العظيمة، منها الأبيش، المهايني، العظمة، البكري، الحسيني، السبيعي، وغيرها.
اما في بيروت فقد اشتهر آل حيدر وآل ارسلان وآل الخازن وآل سلام وغيرهم من كبار العائلات ورجال الحكم بارتداء الطربوش والتفاخر به، حتى قيل ان المسؤول في الوزارة او في مجلس النواب إذا كان لايرتدي الطربوش فلا يمكن ان يكون على مستوى المسؤولية والجدية في اتخاذ القرار، حتى انه كان في بيروت مقهى لايدخله الشباب إلا إذا كانت معتمراً الطربوش .
وفي فلسطين فإن العائلات الفلسطينية الكبيرة التي كانت منتشرة على مدن الساحل الفلسطيني، وفي المدن الداخلية مثل القدس ونابلس كانت ترتدي الطربوش رمزاً للجاه الاجتماعي، والمكانة الدينية والسياسية وما زال طربوش الحاج امين الحسيني الزعيم الفلسطيني الذي قاد ثورة الفلسطينين قبل عام 1948حاضراً في الاذهان.
اما في مصر فقد استعمل الطربوش، وبقي منتشراً حتى عام 1952، بعد ذلك انزوى نهائياً ولم يبق مه سوى الصور التذكارية، وقد اشتهر افراد العائلات المصرية العريقة مثل عائلة سعد زغلول الزعيم الوطني المعروف، وحبيب باشا السعد، وفكري اباظة، رئيس تحرير المصور، وطه حسين ومصطفى لطفي.
وفي دمشق حالياً محلات معدودة لصناعة الطرابيش وترميمها بعد ان كان هناك حوالي 400محل.
يقول البعض ان الطربوش يوناني الأصل واتى به الاتراك إلينا، وقد استعملت القبعة الاجنبية بدلاً منه، ثم استبعدت لكونها دخيلة على تقاليدنا العربية، وليست من بيئتنا العربية.
يصنع الطربوش من الخام الخاص( الجوخ) ويوضع معه القش الذي يستعمل كعازل للرطوبة ويكسبه متانة اكثر، وقد يصنع بدون القش، ولكل رأس قالب خاص يتراوح مابين 25سم و 75سم، ولصناعة الطربوش يأتي الصانع لتفصيل القماش اللازم على القالب، ثم يدخل إليه القش وتركب الشرابة السوداء ويكبس على الستارة، والعملية في مجملها تستغرق نصف ساعة.
احد اصحاب محلات بيع الطرابيش يقول في الماضي كنا نبيع 6000 طربوش، اما اليوم فقد اصبح الطربوش من التراث، وكان سعره ليرة ذهبية، اما اليوم فقد ارتفع كثيراً ويعود ذلك الى انقراض الطربوش وعدم وجود الصناع.
وقد نتساءل عن مصير العديد من مزاولي هذا النوع من الحرف اليدوية تجاه تطور المدينة والصناعة وغلاء المعيشة والمتطلبات الحياتية التي تتكاثر يوماً بعد يوم، وعن مصير المهنة نفسها؟
ونجد الإجابة على تساؤلنا: إنه الزمن الذي تتجاوز عجلته التي لا تتوقف امماً ورجالاً وصناعات وتقاليد، فهذه طبيعة الاشياء، وهذه هي الحياة.