الطب الإغريقي وأثره عند المسلمين العرب

greekرغم ان التراجم السريانية للكتب الطبية الاغريقية كانت الرابطة الحاسمة بين النصوص الاغريقية وانتقالها الى العربية وبالتالي في انتشارها في المجتمع الاسلامي ، الا انها كالعادة ظلت منسية .
ان ترجمة النصوص الاغريقية الى السريانية بدأت بترجمات الأدب اللاهوتي في القرن الرابع الميلادي ، واستمرت بلا انقطاع الى نهاية القرن التاسع . أما ترجمة النصوص الطبية ، على وجه الخصوص ، فيبدو انها بدأت حوالي الخمسمائة بعد الميلاد على يد سيرغيس الراسيني ( توفي 536 ميلادية ) الذي ، ومن ضمن محاولات علمية اخرى ، ترجم الى السريانية اثنين وثلاثين عملاً لـ غالينوس ،وكانت تتضمن ترجمات الراسيني النصوص الرئيسية للطب والمعتمدة في مدرسة الاسكندرية في ذلك الحين . ويتضح ان تراجمه السريانية كانت اولى التراجم لاعمال طبية اغريقية الى لغة سامية . أما حركة الترجمة التي تلت سرغيس الراسيني فبلغت أوجها على يد(( حُنين بن اسحاق)) وهو من مواليد الحيرة في جنوب وسط العراق سنة 810 م ، ويعتقد انه من اصل حرّاني، نزحت عائلته من حرّان في زمن الخليفة العباسي ” هارون الرشيد ” الى الحيرة (جامعة الأديان )، وكان والده يشتغل بالصيدلة، وحُنين طبيب وجراح في امراض العيون . وفي ذات الوقت كان قد انجز العديد من التراجم العربية لتلك النصوص الاغريقية. وهناك احتمال ان التراجم العربية للنصوص الطبية كانت قد بدأت في القرن الاول للهجرة ، الا انها لم تكن كثيرة حتى اواخر القرن الثامن .
وكان هناك ، على صعيد اللغة السريانية ، استمرارية مدهشة لمراكز التعليم ومتابعة العلم ، وكلها تعود الى ما قبل الاسلام وخلال العصرالاسلامي . .
وهذه الاستمرارية والتي اسبابها هي في غاية الاهمية لما نجم عنها من تراجم لنصوص اغريقية الى العربية .
أولاً ، التراجم السريانية والدراسات المتواصلة حافظت على النصوص الطبية ، في الوقت الذي كانت الاغريقية قد اخذت تتلاشى بعد أن كانت لغة المثقفين لألف عام في شرقي البحر المتوسط . وفيما يتعلق بهذا الأمر ، ينبغي ان نتذكر ان تلك التراجم السريانية العديدة كانت قد اعدت تلبية للاحتياجات العلمية الخاصة بالاطباء الناطقين بالسريانية الذين لم يعد لديهم مقدرة على التواصل والدراسة باللغة الاغريقية . كما ان استمرارية العلوم السريانية ، رغم الغزو العربي الاسلامي ، حافظت ايضا على البرنامج الطبي التابع لمدرسة الاسكندرية في الفترة المتأخرة . وفيما بعد ، صارت هذه المجموعة من النصوص ، وخصوصاً اعمال غالينوس ، قاعدة لتعليم الطب في المجتمع الاسلامي .
ذكر حُنين بن اسحق في لائحته التي تضم اعمال غالينوس المترجمة ، أن أول عشرين كتاباً هي تلك الكتب التي كان يفترض في طلاب مدرسة الاسكندرية للطب أن يدرسوها.
كان هؤلاء الطلاب قد اعتادوا على دراسة تلك الكتب . وقد اعتادوا ان يلتقوا كل يوم لقراءة وتفسير واحد من تلك الكتب الاساسية لدراسة العلوم الطبية . أما بالنسبة لما تبقى من كتب غالينوس فكان طلاب الاسكندرية قد اخذوا على عاتقهم المضي في اعتبارها المدخل الرئيسي لدراسة الطب .
ثانياً ــ أما الأمر الآخر الذي له أهمية مماثلة فهو أن استمرار ترجمة نصوص طبية اغريقية الى السريانية منذ بداية القرن السادس ، ادى الى ابداع ذخيرة لغوية اختصاصية برهنت على اهميتها القصوى في ترجمة ذات النصوص فيما بعد الى العربية ، اذ كان حُنين بن اسحق وزملائه ، عادة ، يترجمون نصوص اغريقية علمية او فلسفية الى السريانية اولا ً، ومن ثم الى العربية .
وكتب (سباستيان بروك )عن ترجمة هذه النصوص الفلسفية قائلا:
[أحد الاسباب التي تجعل هذا النهج يبدو غير عملي ، غير طيع ( للوهلة الاولى ) هو ان حُنين بن اسحق كان استند في ترجمة النصوص الاغريقية المعقدة الى السريانية على خبرة تراكمت منذ خمسمائة سنة ، اما بالنسبة للعربية فلم يكن لها ارث يتعلق بالترجمة ، لذا لم يكن امر انجاز الترجمة من الاغريقية التي هي لغة هندواروبية الى العربية السامية سهلاً الا اذا تمت عبر السريانية ، التي هي الاخرى لغة سامية . لذلك معرفة اللغة السريانية كخلفية تاريخية هي شأن أساسي في دراسة الفلسفة الارسطوطالية عند العرب ].
والى حد ما يمكن أن يقال ذات الشيء عن تدريس طب غالينوس بين العرب . وهناك اجماع عام بأن حُنين بن اسحق كان بارعاً للغاية في ابتداع مفردات تقنية جديدة ومناسبة للطب في اللغة العربية ؛ وبذات الوقت تم ادخال الفاظ سريانية على اللغة العربية باعداد كبيرة .

ثالثاً ــ هناك دليل هام آخر على استمرار التراجم السريانية الطبية ورد في تعداد حنين بن اسحق لكل مؤلفات غالينوس التي كانت موجودة حتى عام 880 ميلادية في تراجم عربية وسريانية . وهذه اللائحة ( وضعها حُنين بن اسحق ) ظهرت تحت عنوان ” بحث لـ حُنين بن اسحق الى علي بن يحيى يعدد فيه ، حسب معرفته ، ما ترجم من كتب غالينوس وما لم يترجم ” . وبناء على هذا البحث وعلى دراسة حديثة تناول فيها( ديغين راينر) مخطوطة سريانية بامكاننا ان نخلص الى بعض الملاحظات العامة .
من خلال طبعة كوهن للقرن التاسع عشر ان كل عناوين كتب غالينوس كانت تقريبا قد ترجمت الى السريانية عند نهاية القرن التاسع الميلادي ، بالاضافة الى اربعين عملاً شهيراً آخر لـ غالينوس .
ولكن ليس هناك وضوح تام الى اي حد كانت نصوص الطب الاغريقي الاخرى قد ترجمت الى السريانية ، لاسيما اعمال (هيبوقريطس) ، لأن لائحة حُنين بن اسحق كانت وصفاً لمؤلفات غالينوس فقط . ويحتمل ان التراجم السريانية لأعمال هيبوقريطس لم تكن كثيرة ، وهي التي حددت النموذج الذي اتبعه الطب الاسلامي فيما بعد . اذ بقيت تعاليم هيبوقريطس تسير في ظل غالينوس خلال العصور الوسطى المتأخرة .

وبالرغم من اجلال اطباء القرون الوسطى لـ هيبوقريطس الا ان أعماله لم تلفت اهتمام المترجمين و ممّوّليهم كما فعلت اعمال غالينوس . وتكاد الترجمات العربية المتأخرة لأعمال هيبوقريطس ان تكون تقريبا مستمدة برمتها من اعمال غالينوس المترجمة ومن بعض الكتاب الهيلنستيين . وكانت مؤلفات هيبوقريطس الصعبة قد اعيدت صياغتها وفق شكل يسهل فهمه وينسجم مع نظرية غالينوس . وكما نوه ابن رضوان ، الطبيب المصري في القرن الحادي عشر ، ” ان غالينوس قام بتنقية تعاليم هيبوقريطس وجعل من مهنة الطب سهلة ومفهومة للناس الموهوبين والراغبين في تعلمها ” .

وهناك ايضا أدلة في النصوص الطبية العربية عن ابحاث متميزة كتبت باللغة السريانية ، ولكن قليلة هي تلك النصوص الكاملة التي كتب لها البقاء . مثلا : كان هناك عمل لـ سرغيس الراسيني عن داء الاستسقاء ، و ابحاث لـ أيوب الرهاوي عن داء الكلب ، و اسباب الحمة ، و فحص البول . أما بالنسبة للموسوعات والشروحات السريانية فالقليل منها ظل باقياً الآن . ونعرف ايضاً انه توجد موسوعات هامة مثل “بندكتس ” وضعها أهرون الكاهن ، وترجمت الى السريانية ربما في القرن الثامن الميلادي ، وكان هناك كتاب يدعى ” كوناش اشليمون ” و ” كوناشالخوز ” ، ويبدو انه كان موجز طبي من تأليف اطباء جنديسابور في بلاد فارس . وكان هذا النموذج للملخصات والموسوعات السريانية قد اتبعه كتّاب الطب العرب . وهذا بدوره ادى الى ظهور المؤلفات للموسوعة العربية في القرن العاشر والحادي عشر ، الا ان هذا التطور الذي تم في منأى عن النصوص الكلاسيكية كان غالباً مخيباً لآمال الاطباء المسلمين .
وبالرغم من ازدياد هذه المؤلفات الثانوية ظلت كتابات غالينوس هي المهيمنة كلياً على التراث الطبي السرياني ، وتلك الهيمنة استمرت فيما بعد في التراث الطبي عند العرب . أما اعمال هيبوقريطس و غالينوس السريانية فلم ينشر منها حتى الآن الا ” أمثال ” هيبوقريطس ، و أجزاء قصيرة من المجموعة الكاملة لأثار غالينوس . كما لم ينشر حتى الآن من الشروحات والكتابات السريانية الا الندر اليسير .

أما فيما يتعلق بالترجمات ذاتها والذين ترجموا تلك النصوص من الاغريقية الى السريانية فوصف حُنين بن اسحق لهم ، كما ورد في الرسالة ، هو صحيح ، اذ كان جميع المترجمين من الصابئة الحرّانيون والمسيحيون ، الذين يعرفون اللغات اليونانية والسريانية والعربية . الا ان حُنين بن اسحق وآخرين كان لديهم معرفة بالفارسية ايضا، ولكن ليس هناك ما يثبت ان أطباء جنديسابور في بلاد فارس قاموا بترجمة أي نصوص طبية الى العربية . أما الذين دعموا وشجعوا على ترجمة الاعمال الطبية فكان اهتمامهم الاكبر بغالينوس ، واحيانا كانت توجد تراجم عديدة لنص واحد ، وكانت جميع التراجم تتم مباشرة من الاغريقية الى السريانية ، باستثناء ثلاث تراجم قام بها (حُبيش بن الأعسم) ، ابن شقيقة حُنين بن اسحق ، من العربية الى السريانية . وكانت التراجم السريانية لاعمال غالينوس تتم لاجل اطباء من الصابئة والمسيحيين واصحابهم الذين لهم علاقة بالطب . أما الترجمات العربية فكانت تتم لأجل ممولين واصدقاء المترجمين الذين كانوا عادة من مشاهير رجالات الدولة المسلمين .

أود الان ان اضع هذه الحقائق الموضوعية في سياقها التاريخي ، الا وهو العراق في بداية العصر العباسي . والعنصر الهام ضمن هذا السياق هو الانتشار الواسع للاطباء والخدمات الطبية من المسيحين والصابئة. وكان ظهور المستشفى من ابرز سمات هذه الخدمات ، وكان عبارة عن ملجأ خيري عام ولكن غير معرّف بتلك التسمية في ذلك الزمن . الا ان المسيحيين السريان ، منذ القرن الرابع الميلادي ، كانوا قد قدّموا في ( الزينوديكيا ) أو المستشفيات ، خدمات مجانية للمرضى والعجز ، وكانت هذه المؤسسة الطبية الجديدة قد انتقلت الى السريان من بيزنطة حيث كانت موجودة ومتطورة للغاية . رغم انه لم يكن في الشرق تخصص مؤسساتي مشابه للفعالية الخيرية ، الا ان المستشفى السرياني كانت مشهورة في منطقة الساسانين . وبما ان زينوديكيا الاغريقية هي لفظة استعارتها اللغة السريانية ، لذا فهو دليل جيد على ان الكنيسة آنذاك كانت قد تهلينت .
كما نعرف من التاريخ الذي وضعه زكريا النحوي (مؤرخ سرياني) ان مثل هذه المستشفيات كانت قد بنيت في منتصف القرن السادس ، حين أعطى الملك( خسرو نشروان) للبطريرك ترخيصا، وكان الاول من نوعه ، يسمح له ان يبني مستشفى في الامبراطورية الساسانية ، ومدّ الشاه المستشفى بالمساعدات المالية وخصها باثنى عشر طبيبا .

استمر انشاء المستشفيات التي تعود لغير المسلمين في العصر الاسلامي ، ولحسن الحظ لدينا رسالة من البطريرك (تيموثاوس) تنص على أنه كان قد بنى مستشفى في ” المادا ” سماها بيمارستان ، وذلك عام 790م . ويبدو ان لفظة ” بيمارستان ” التي تعني بالفارسية ” مكان لأجل المرضى ” تشير الى ان المستشفى السرياني كانت قد اصبحت مؤسسة معروفة في بلاد فارس في اواخر القرن الثامن الميلادي . وهذا أمر هام لأنه حين اقيمت مستشفى اسلامية في بغداد في بداية القرن التاسع كان المسلمون قد تبنوا ذات الاسم ( بيمارستان ) وذات المؤسسة المسيحية.

كانت المستشفيات تعتمد ، بالطبع ، على تدريب مستخدمين طبيين ، ويتضح ان دراسة الطب الاغريقي في معاهد اللاهوت السريانية الشرقية كانت مادة اضافية ( مساعدة ) تدرّس كـعلم مفيد . كان رجال الدين ، وحتى الكهنة ، يستخدمون طرائق الطبيب المقتدر ، أو كانوا يعرفون متى يحيلون المريض الى طبيب اختصاصي . لسوء الحظ ان الدليل التاريخي الوحيد على هذا الارتباط الوثيق بين المعهد اللاهوتي المسيحي وتدريس النصوص الطبية كان في نصيبين وبشكل خاص في القرن السادس ، أما بالنسبة لمدرسة ومستشفى (جنديسابور) الشهيرة فالادلة تكاد ان تكون واهنة .
كان هناك اسطورة ابتدعت ، على الاغلب ، في اواخر القرون الوسطى تفيد بانه ربما كان في جنديسابور معهد لاهوتي متواضع له مشفى ، على غرار نصيبين ، كان يدرس فيه طب غالينوس ، ولكن الاطباء الذين تدربوا في جنديسابور ، بعكس هؤلاء الذين كانوا في نصيبين ، صاروا بارزين في العصر العباسي لقربهم من عاصمة الخلفاء الجديدة .

بالرغم من ندرة الادلة التاريخية عن التعليم الطبي في معاهد اللاهوت ، يبدو أنه كان هناك نسبياً عدد كبير من الاطباء المسيحين كمطارنة واطباء في البلاط الفارسي قبل وخلال العصور الاسلامية . ولعب هؤلاء الاطباء دوراً حاسماً في تطور الطب الاسلامي .
بالمناسبة انا مستغرب انه لم يكن هناك اي دليل على وجود اطباء يهود او نصوص طبية عبرية ، ولم يكن لهم اي تأثير على الاحداث الطبية في بغداد . على اي حال ، ادى الاطباء المسيحيون والصابئة خدمات كبيرة للخلفاء العباسيين ، اذ كانوا ، بالطبع ، مخصصين كاطباء للعائلة الحاكمة والبلاط ، وكانوا يتلقون مرتبات عالية جداً. وأدت منزلتهم الرفيعة الى تعزيز هيبة الدولة والبلاط ، وربما كانت اهتماماتهم العلمية جعلت منهم من اصحاب المنزلة الرفيعة في ظل الحكم الاسلامي في بداية العصر العباسي . كما كانوا اداة مناسبة للتحكم بجزء كبير من السكان ، ومن ناحية اخرى ، استطاعوا ان يكونوا كمندوبين عن الخليفة الاسلامي في بعض الاحيان عند الدول الاجنبية .
أما استمرار بناء المستشفيات فيعود بالتأكيد الى تأثير الاطباء على البلاط والدعم المالي المباشرالذي قدموه . ومن الواضح ان الاطباء أخذوا المبادرة لتعزيز مهنتهم كوسيلة لتذليل العقبات القانونية والمذهبية المتعلقة بوضع أهل الذمة . وبذلك اوجدوا قوة توازن ثقافية ومهنية لمواجهة النمو المعاصر لما سمي بـ ” العلوم العربية “.
وربما كانت جهود اطباء السريان الشرقيين ، فضلا عن الحفاظ على مهنة الطب بين المسيحيين ، طرفاً في التنافس مع السريان الغربيين لاكتساب السمعة الجيدة.
وجانب آخر للسياق التاريخي الخاص بالقرن التاسع هو التنافس بين نظامين طبيين . كان الاطباء الغير مسلمين في موقع قوي بحكم خبرتهم لدراسة الطب وممارسته ، وكذلك علاقتهم الشخصية مع الخلفاء العباسيين . واذا اعتمدنا في حكمنا على ماكتبه (الجاحظ ) لنا ، فقد كان اقتصار الخبرة الطبية شيئاً معروفاً ايضاً لدى العامة من اهالي بغداد في مطلع القرن التاسع . يبدو ان هؤلاء الاطباء سعوا الى تقوية الارث الطبي بتراجم اخرى ، اذ كان المنافسون لهم نسبياً ضعفاء ، اذ لم يكن التقليد الطبي عند الزرادشتيين ولا التقليد الاسلامي أي” الطب النبوي ” قوياً . كان النظام الطبي عند الهنود الوحيد الذي يمكن ان يشكل تحدياً للطب الغالينوسي ، ويبدو انه كان من البدء متواجداً والطب الاغريقي في بغداد .
ودعوني اقول شيء أكثر عن الطب النبوي ونظام الطب الهندي اللذان ، طبعا ، استمرا رغم تفوق الطب (الاغريقي ـــ العربي) . يبدو لي ان الطب النبوي تطور في هذه الفترة كنقيض للطب الغالينوسي .
كان الطب النبوي ، بالاساس ، طب عربي شعبي ، مزيج من التجريبية والسحر ، وكان قد نسب الى النبي محمد ، الامر الذي منحه شرعية كبيرة بين المؤمنين المسلمين . وكان هذا الطب يمارس باعطاء نصيحة شبه طبية ، على شكل ، احاديث او اقوال للنبي . وكان القرن التاسع الزمن الذي درست فيه كل الاحاديث الدينية بشكل مكثف ، وجرى تقييمها ، ووضعت مع بعضها في لوائح دستورية هامة لتكون مصدراً اساسياً في العقيدة الاسلامية . والاحاديث والاحداث المتناقضة المتعلقة بالنبي في هذه اللوائح والفروض تعكس ، بشكل عام ، التشعب في الرأي عند المسلمين حول مواضيع مختلفة في القرن التاسع وقبله .
أما بالنسبة للطب ، فهذه الاحاديث المتناقضة معنية بوجود العدوى او الاصابة ، والسبل المناسبة للمعالجة الطبية ، وشرعية الدواء ذاته . والكثير من هذه الاحاديث الطبية كانت ، بلا شك ، قد لفقت بعد زمن النبي . على اي حال ، كانت الاحاديث الطبية قد جمعت ، بشكل مستقل ، من قبل كتاب مسلمين لاحقين ، ولكنها كانت تشرح على ضوء مباديء وقواعد غالينوس في المعالجة الطبية بصورة غير متناغمة . و يبدو ، في الواقع ، أنه كان هناك رغبة لدى بعض المسلمين في انقاذ الطب من انتقاد المتدينين الذين لم يجدوه ضروريا ، ومن جانب اخر ، هو ايجاد نظام طبي غير ملطخ بالتراث الوثني ومتحرر من علوم وخبرات وممارسة الاطباء الغير مسلمين لمهنة الطب على حد ايمانهم .

كان الطب الهندي ــ الفارسي ، في المحصلة الاخيرة ، مهماً بحكم وظيفته التي يبرع بها بتحضير الادوية. بالاضافة الى ذلك ، أود ان اوضح ان هذا النظام الطبي( الهندي ــ الفارسي ) كان مهماً خصوصاً لارتباطه بانشاء اول مستشفى اسلامي في بغداد. ونعرف ان هارون الرشيد و وزيره ، يحيى البرمكي ، كانا من المؤيدين المتحمسين للثقافة الشرقية ، وكان الوزير يحيى قد دعم ترجمة الكتب الطبية الهندية في المستشفى التي بناها في بغداد في اواخر القرن الثامن . وربما هذه المستشفى ذاتها اصبحت اول مستشفى اسلامية عندما خسر البرامكة الحكم واستولى هارون الرشيد على املاكهم في عام803 .
ليس هناك اي دليل تاريخي يربط بين الاطباء السريان في جنديسابور من بلاد فارس وبناء أي مستشفى اسلامي ، اما بالنسبة لعددهم وتأثيرهم في العاصمة فمن الطبيعي انهم سعوا ان يكونوا الهيئة الطبية لأي مؤسسة طبية ونجحوا في القيام بذلك. أما السيطرة المبكرة لغير المسلمين على الطب واسهاماتهم فيحتمل انها اصبحت أمراً مستساغاً عند المسلمين بعد القرن العاشر ، حين كل اعمال غالينوس التي كتب لها البقاء كانت قد ترجمت الى العربية وكان الاطباء المسلمون قد سيطروا على مهنة الطب . عندئذ تكونت علاقة ودية تجاه اطباء جنديسابور السريان ، وبرزت شهرة مركزهم الطبي الكبير في جنديسابور وعلاقته بأول مستشفى اسلامي .

من الواضح ان الاطباء المسيحيين والصابئة عززوا مكانة طب غالينوس ، ومن بداية القرن التاسع كانوا قادرين ان يعرفوا ضوابط وشروط مهنة الطب وممارستها وفق تعاليم غالينوس. وكان وجود النصوص الطبية المترجمة سبباً ونتيجة للتطور الرائع للمستشفى الاسلامي . كان الاطباء المسيحيون والصابئة ، بناء على مجمل اعمال غالينوس المترجمة ، قادرين ان ينشؤوا مؤسسة طبية حقيقية ، بمعنى ان المستشفى كانت مزودة بموظفيين طبيين متحررين من القيود الدينية ، سواء كانت مسيحية او صابئية او اسلامية ، ويمارسون الطب كنظام عقلاني .
كانت تعاليم غالينوس ، خلال القرن التاسع ، قد تبسطت وانتظمت في نسق فكري متماسك ، وعلى وجه التخصيص ، في اتجاه التركيز الكامل على السبب الفيزيولوجي للمرض ومعالجته الفيزيائية ، الامر الذي ساعد على توسيع الطب ليشمل مجالات جديدة كالجنون الذي اندمج تطبيبه في المستشفى. وكان لتأثير تعليم طب غالينوس ايضا الفضل في فصل المستشفى برعايتها المدنية ( العلمانية ) عن السيطرة الدينية للمسلمين وعن دمجها بالتعليم الاسلامي . وظل التركيز على نصوص غالينوس الطبية ، سواء في السريانية او العربية ، ميزة هامة للطب الاسلامي ، لأن المجتمع الاسلامي كان يفتقر لمقاييس المهارة الطبية ، باستثناء ما كان يثبته الطبيب عمليا من خلال معرفته للكتب الاغريقية . لهذا استمرت كتب غالينوس في التدريس داخل وخارج المستشفى .

وفي العودة الى تراجم القرن التاسع ، نستطيع ان نرى تنافس بين اطراف متنازعة ،اذ تترجم النصوص الطبية من السنسكريتية والفارسية الى العربية وايضا من الاغريقية الى السريانية و العربية . لقد اكد ، بشكل عام ، القدامى من مؤرخي القرون الوسطى للطب والمحدثون الذين جاءوا بعدهم على اهمية التراجم العربية لأن الهيمنة النهائية كانت للنصوص العربية والاطباء المسلمين. ويزعم عادة ان التراجم العربية على انها علم منزّه ولايجوز الطعن بها. ولكن هذا الوصف يخفي المصلحة الشخصية للمسؤولين المسلمين الذين دعموا هذه التراجم .

كان الدعم الاسلامي للتراجم العربية والمستشفيات الجديدة نتيجة مباشرة لتعهد البلاط بذلك ، وهكذ ظل و بصرف النظر عن الرغبة في ايجاد اطباء ومؤسسات اسلامية ، ولربما لعب دعم الطب الاسلامي دورا في تنافس العباسيين مع معاصريهم من الاباطرة البيزنطيين الذين كانوا من الداعمين المعروفين لمثل هذه النشاطات الخيرية . أما على الصعيد المحلي ، فلربما كان هناك منافسة للاعمال الخيرية التي تقوم بها المؤسسات المسيحية . وكان دعم السلطات للاعمال الخيرية الجماعية وسيلة مباشرة لتأسيس أو تعزيز السلطة السياسية . ولربما ايضا ، كان هناك ايضا حاجة ماسة لعمل خيري اسلامي، بحكم الفشل العام للنظام الضريبي الالزامي ( الزكاة ) ان تلبي مطالب واحتياجات السكان المسلمين الذين كانوا بتزايد مستمر، لاسيما ، في المدن الكبيرة. بالاضافة الى ذلك ، كان غياب الاديرة المسيحية ، كمراكز للخدمات الاجتماعية في المدن الاسلامية ، كمدينة بغداد ، والانخفاض اللاحق في عدد الاديرة والسكان المسيحيين في امكنة اخرى من الامبراطورية العباسية ، محرضا اضافيا على الاحسان الاسلامي .

كانت الانجازات الاغريقية القديمة بذاتها تنطوي دائما على شعور قوي بالمباديء الاخلاقية للطب ، وقيمة الحياة البشرية ، ومهمة الشفاء ، وهذه الميزات ربما كانت الارث الاقوى الذي انحدر الى الطب الحديث . وكان غالينوس قد عزز هذه الميزات في مهنة الطب القديمة وذلك برفع منزلة الطبيب ، والشعور الانساني بدوره ، وأكد أكثر على العوامل الاخلاقية لممارسة الطب . وبذلك كان المترجمون ، كوسطاء بين النصوص الاغريقية والعربية ، قد زودوا المسلمين بالحافز الاول والحاسم ليصبحوا واعين لواجبات الطب تجاه المجتمع …

المصادر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1. بول كونتزش ـــ من الاسكندرية الى بغداد ـــ الاكاديمية البروسية ـــ 1975 .
2. الينور ليبر ـــ اعمال غالينوس في العالم الاسلامي في القرون الوسطى ـــ لندن ـ 1981 .
3. سيباستيان بروك ـــ مدخل الى الدراسات السريانية ـــ برمنغهام ـ 1980 .
4. جوتهارد سترومير ـــ اللغة العربية ولغة العلم ــ ( رؤية فلسفية ) ــ برلين ـ 1969 .
5. منفريد أولمان ـــ الطب في الاسلام ـــ المانيا ــ (كولونيا) ـــ 1970 .
6. ارنست بروكس ـــ الاسطورة والحقيقة ـــ لندن ــ 1987 .
7. مايكل . س . موروني ـــ العراق بعد الحكم الاسلامي ـــ كارديف ــ 1984 .
8. فرانس روزنتال ـــ التراث الكلاسيكي في الاسلام ـــ لوس انجلوس ــ 1979 .

About عضيد جواد الخميسي

كاتب عراقي
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.