ولمّا أنعم الله على العرب بالإسلام، فقد أضاف الإسلام إلى معارفهم بالضّراط طبقةً جديدة، وعلمًا جديدًا إلى علومهم التّليدة. إذ لم يعد الضّراط، يقتصر على الإنسان والحيوان فحسب، بل تعدّاه الآن إلى الشّيطان، كما روي عن الرسول: “عن أبي هريرة، عن رسول الله صلعم، قال: إذا أذّنَ المُؤذّنُ أدْبَرَ الشيطانُ وله ضُراط، فإذا سكتَ أقبل. فإذا ثوّب أدبرَ وله ضُراط، فإذا سكت أقبل، يخطر بين المرء ونفسه حتى يظلّ الرجلُ لا يدري كم صَلّى، فإذا صلّى أحدُكم فوجد ذلك، فليسجُد سجدتين وهو جالس.” (صحيح ابن حبان: ج 7، 322، أنظر أيضًا: صحيح البخاري: ج 1، 220؛ صحيح مسلم: ج 3، 69؛ سنن الدارقطني: ج 4، 60؛ سنن النسائي: ج 3، 70؛ سنن أبي داود: ج 2، 193؛ الجامع الكبير للسيوطي: ج 1، 1543؛ مستخرج أبي عوانة: ج 2، 370؛ سنن البيهقي: ج 2، 331؛ مسند الشاميين للطبراني: ج 7، 208؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 1، 68؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 3818؛ الأوسط لابن منذر: ج 4، 107؛ الترغيب للمنذري: ج 1، 110؛ المستطرف للأبشيهي: ج 1، 22).
غير أنّ هذا الشّيطان الّذي يهرب ضارطًا لسماع الأذان لا يلبث أن يعود ليندسّ بين المصلّين، إذ أنّه ليس لديه شغلٌ آخر يشغله سوى غواية المؤمن ابتغاء صرفه عن أمور دينه، كالصلاة مثلاً. كما أنّه لا يعرف طريقًا للوصول إلى هذه الغاية سوى طريق الضّراط. لكنّ ضراط الشّيطان هو ضراط صوت وليس ضراط رائحة، بخلاف ضراط المؤمنين ، كما رُوي عن الرسول: “عن سعيد المقبرى، قال أبو هريرة، قال رسول الله صلعم: إنّ أحدَكُم إذا كان فى الصّلاة جاءَهُ الشيطانُ فأبسَ به كما يبسُ الرجلُ بدابّته، فإذا سكنَ له أضْرَطَ بين أليتَيْه ليَفْتنَه عن صلاته. فإذا وجدَ أحدُكم شيئًا من ذلك فلا ينصرفْ حتّى يسمعَ صوتًا أو يجدَ ريحًا لا يشكّ فيه.” (مسند أحمد بن حنبل: ج 18، 123؛ أنظر أيضًا: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي: ج 1، 300؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النوري: ج 39، 224).
بالإضافة إلى ذلك، يقوم هذا الشيطان الخبيث بملاحقة المؤمنين إلى عقر دارهم. ولكن، ورغم ذلك، فهنالك وسائل لطرده من البيوت ليفرّ هاربًا ضارطًا بأقصى سرعة. فقد روي عن عبد الله بن مسعود، قال: “ما من بيت يقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط.” (سنن الدارمي: ج 10، 311؛ أنظر أيضًا: تفسير ابن كثير: ج 1، 150؛ تفسير القرطبي: ج 1، 152؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النوري: ج 28، 165).
وعلى ما يبدو فإنّ الضّراط ، هو سمة من سمات هذا الشّيطان، وهي سمة يُعرَف بها وتدلُّ عليه أيضًا، كما ورد في رواية إنقاذ العابد من بني إسرائيل من أحابيله: “حدثنا الفضيل بن عياض، عن سليمان، قال: تعبّد رجل من بني إسرائيل في غار، فبعث إبليسُ شيطانًا فدخل الغار فجعل يُصلّي معه، فقال له العابد: من أنت؟ قال: أتعبّدُ معك، ثم قال: هل أدُلّك على أفضل ممّا نحن فيه؟ قال: وما هو؟ قال: اخْرُجْ بنا نطلب قريةً فنأمُر بالمَعْروف، فأطاعه. فأقبلَ رجلٌ إليهما عند باب القرية فجعلَ الشّيطانُ حين رآه يضرطُ، فأخَذَه الرّجلُ فذبَحَهُ. فقال له العابد: ما صنعت؟ قتلتَ خيرَ النّاس. قال، فقال: إنّما هذا شيطانٌ وأنا رحمةٌ رحمَكَ بها رَبُّك.” (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني: ج 2، 284).
المأثورات الّتي دوّنها لنا السّلف تفيدنا أنّ الفساء والضّراط هما من جملة العلوم التي أسبغها الله على بني البشر الجهلة بهذه العلوم الدّقيقة. هذا ما نستنتجه من رواية ابن عبّاس بهذا الشأن، فقد ذكر في تفسير الآية 31 من سورة البقرة: {وعلّم آدمَ الأسماء كلّها}، قال: “عَلّمَهُ اسْمَ كلّ شيء حتّى الهنة والهُنَيّة والفَسْوَة والضّرْطَة.” (تفسير الطبري: ج 1، 484)، أو أنّه دخل حتّى في التّفاصيل الدّقيقة لهذا العلم، فقد ذكر أنّه علّمة حتّى الفرق بين الفسوة الكبيرة والفسوة الصّغيرة لكي لا تلتبس عليه هذه الأمور: “قال ابن عباس: عَلّمَه حتّى الفَسْوَة والفُسَيّة.” (تفسير ابن كثير: ج 1، 223؛ أنظر أيضًا: الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 120؛ تفسير ابن أبي حاتم: ج 2، 47؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 9؛ مجموع الفتاوى لابن تيمية: ج 7، 94).
ومن موجبات الوضوء، التي تُعدّ على ما يبدو كالضّراط في الصّلاة، يمكن الإشارة إلى مسّ الصّليب لما به من نجاسة أيضًا. فقد روي في هذا السياق عن تقديم عليّ بن أبي طالب لرجل آخر في الصّلاة وذهابه ليتوضّأ لأنّه مسّ صليبًا، كما تنصّ عليه الراوية: “وأمّا مَسُّ الصليب والوثن، فإننا روينا عن عبد الرزاق…عن أبي عمرو الشيباني، أنّ علي بن أبي طالب رض استتابَ المستورد العجلي، وأنّ عليًّا مَسَّ بيده صليبًا كانت في عنق المستورد، فلمّا دخل عليّ في الصلاة قَدّمَ رجلاً وذهب. ثم أخبر الناس أنّه لم يفعل ذلك لحدثٍ أحْدَثَه، ولكنّه مَسَّ هذه الأنجاس، فأحبّ أن يُحدث منها وضوءًا.” (المُحلّى بالآثار لابن حزم: ج 1، 458). وبكلمات أخرى، يقول عليّ للمؤمنين إنّه قد ذهب ليتوضّأ، ليس بسبب حَدثٍ أحدثه، أي ضرطة أو فسوة خرجت منه، وإنّما بسبب مسّه الصّليب لما به من نجاسة موجبة للوضوء، على غرار الضرطة.
ليس هذا فحسب، بل إنّ صوت نواقيس الكنائس شبيه بضراط الحمير، كما يذكر سفيان الثوري: “حدثنا ضمرة قال، قلت لسفيان الثوري: أيّ شيء أقول إذا سمعتُ صَوْتَ الناقُوس؟ قال: أي شيء تقولُ إذا ضرطَ الحمارُ؟” (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني: ج 3، 139).
مهما يكن من أمر، ولأنّ الإسلام قد نهى عن الضحك من الضرطة، فعلى ما يبدو لم يعد حدوث الضرطة يؤدّي إلى شيء من الإحراج، فها هو عمر بن الخطّاب يعترف أمام النّاس بضراطه على المنبر إذ وقف خطيبًا فيهم: “ويروى أن عمر رضي الله عنه كان يخطب فقال: أيّها الناس إني ميّزتُ بين أنْ أخافَ الله وأخافَكُم، فرأيتُ خوفَ الله أولى، ألا وإنّي قد خَرجَتْ منّي ضَرْطةٌ، وها أنا أتوضّأ وأعود.” (محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: ج 1، 446)، وها هو الحجّاج يعترف بضراطه أيضًا: “وضرط الحجاج على المنبر فقال: ألا إنّ كلّ جوف ضروط. واستدعى بالماء فتوضأ.” (محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: ج 1، 446)، وها هو المغيرة ينزل عن المنبر ليتوضّأ بعد أن ضرط: “صعد المغيرة المنبر فضرط فحرّك يده وضرب بها استَه وقال: كُلّ اسْتٍ ضروط، ثم نزل وتوضأ، وعاد إلى مكانه.” (نثر الدرّ للآبي: ج 2، 40).
بالإضافة إلى ذلك، فقد كان للسّياسة حظّ من الضراط. وعلى ما يبدو فقد كان للضّراط تأثير خفيّ في أمور السّياسة على مرّ العصور العربيّة. هذا ما نستنتجه من الرّواية بشأن التّوتُّر القائم بين السنّة والشّيعة، ومحاولة معاوية با أبي سفيان التّشنيع والنّيل من سمعة شيعة عليّ. فحسبما حفظ لنا السّلف من روايات، ذُكر أنّ أبا الأسود الديلي، من شيعة علي، قد: “دخل على معاوية خاليًا، فتحادثا طويلاً، فحبقَ أبو الأسود. فقال لمعاوية: إنّها فلتة، فاكتُمْها عَلَيّ، فقال معاوية: أفْعَلُ ذلك. فلمّا خرج من عنده، دخل على معاوية عمرو بن العاص فأخبرَه عن ضرطة أبي الأسود. ثم خرج عمرو فلقي أبا الأسود بالسّوق، فقال له: ما فَعَلَتْ ضَرْطتُكَ يا أبا الأسود؟ فقال أبو الأسود: كُلّ ذي جوف ضروط، ثم غدا على معاوية فقال له: إن امْرأً لم يُؤمنْ على ضرطةٍ حَقيقٌ ألاّ يُؤمن على إمرة المؤمنين.” (سمط النجوم العوالي للعصامي: ج 2، 61؛ أنظر أيضًا: نثر الدرّ للآبي: ج 2، 38؛ محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: ج 1، 446).
لقد حاول الخلفاء أحيانًا التّخفيف من روع الضّارطين في مجالسهم معترفين أمامهم بأنّهم هم أنفسهم من المكثرين بالضّراط: “كلمت امرأةٌ هشام بن عبد الملك في حاجة فضرطت، فسكتت وخجلت!فقال: تكلمي ولا تستحي فما سمعتُ هذا من أحدٍ أكثرَ ممّا سمعتُه مني.” (محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: ج 1، 47)، وبرواية أخرى: “وحبق كاتب لعمر بن عبد العزيز بين يديه، فرمى بقلمه واستحيا ممّا جاء به. فقال عمر: لا عليكَ، خذ قلمك واضمم إليك جناحك وليذهب روعك، فما سَمعْتُها من أحدٍ أكثرَ ممّا سَمعْتُها من نفسي.” (سمط اللآلي للميمني: ج 1، 119).
لقد بلغ الأمر بالبعض أن اتّخذوا من الضّراط مهنة يتكسّبون بها، وهذا ما دفع بأبي عامر الجرجاني أن يقول شعرًا:
قد ضاقَ صَدْرِي من صُدور زَماننا ,,,,,,,,,,, فَهُمُ جماعُ الشّرِّ بالإجْماعِ يَتضارَطُونَ، فإنْ شَكَوتَ ضُراطَهم ,,,,,, ,شَفَعُوا سَماعَ الضّرْط بالإسْماعِ
هذا يُفَرْقعُ بالضُّراط وَذاكُمُ ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,, يَرْمِي بمثل حِجارَةِ المِقْلاعِ وَمِنَ البَليّةِ أنْ تُعاشرَ مَعْشَرًا ,,,,,,,,,,,,,,,,,, يَتَضَارَطُونَ الدّهْرَ بالإيقاعِ” (الوافي بالوفيات للصفدي: ج 7، 168؛ أنظر أيضًا: معجم الأدباء لياقوت الحموي: ج 2، 247).
وأخيرًا، لعلّ خير ما نختتم به دراستنا هذه حول الضراط في التراث العربي، هو أن نستعير مقولة ابن أبي علقمة تعميمًا على العرب أجمعين، إذ يبدو أنّ العرب مخضرمون في هذا الباب، فسّاؤون في الجاهلية ضرّاطون في الإسلام. تذكر الرّواية العربيّة: “مر ابن أبي علقمة على جماعة من عبد القيس، فضرط بعض فتيانهم فقال: يا عبد القيس، فسائين في الجاهلية ضراطين في الإسلام، إن جاء دين آخر خريتم.” (التذكرة الحمدونية: ج 3، 222؛ أنظر أيضًا: نثر الدرّ للآبي: ج 2، 40).
والسؤال الّذي يطرح نفسه هو، هل ستبقى أبواب الضّراط مفتوحة على مصاريعها جالبة معها تصوّرات مستجدّة وعلومًا عربيّة مستحدثة؟ هذا ما سيكشفه لنا المستقبل..!!