الصراع على العرب مرة أخرى!
قبل ثلاثة أشهر، وعندما كانت وسائل الإعلام الغربية والروسية والإيرانية والسورية منهمكة في وصف هول تدخلات المتطرفين الأجانب في سوريا، صدر تسجيل لأيمن الظواهري يحذر فيه أنصاره من استيلاء الأميركيين على بلاد الشام! ما اهتم الظواهري (القابع في إيران منذ سنوات) بقتال الروس والإيرانيين وحزب الله والميليشيات العراقية والحوثية إلى جانب نظام الأسد، بل اهتم (مثل خامنئي تماما) بإمكان سيطرة الإسرائيليين والأميركان على البلاد الثائرة على الأسد، والتي من المفروض أنه أرسل أنصاره إليها أيضا للكفاح ضد نظامها! وبعيدا عن لغة المؤامرات السرية الرهيبة، والتي لا يمكن الذهاب باتجاهها لسبب بسيط هو أن نوايا وخطط الجميع صارت علنية، دعونا نعدْ إلى أصول المسائل، إلى المصالح الدولية والإقليمية في المنطقة العربية.
لقد هيمنت الولايات المتحدة في منطقتنا تماما بعد الحرب الباردة، وبعد طرد صدام حسين من الكويت ومحاصرته، وعندما تمردت «السلفية الجهادية» على الهيمنة، مضت الولايات المتحدة باتجاه موجة جديدة من الغزوات لإعادة تثبيتها. ولأن القوى الثائرة على أميركا كانت عربية وسنية، فقد اتجه الأميركيون إلى استنفار القوى الإقليمية الأخرى: الإسرائيليين والأتراك والإيرانيين. أما الإسرائيليون فما وجدوا لهم مصلحة قريبة وحاكمة، بل إنهم كانوا وقتها يتجهون إلى فك الارتباط بالانسحاب من لبنان، وبإعادة الاتصال بالنظام السوري في عهد الرئيس الجديد، ودخل الأتراك مع الأميركيين في أفغانستان، لكنهم أعرضوا عن الدخول معهم في العراق. واستجاب الإيرانيون للرغبة الأميركية في الحالتين: حالة أفغانستان وحالة العراق؛ لأن طالبان كانت شديدة العداء لهم إلى حدود تهديدها بالحرب من جانبهم، ولأن صدام ظل عدوهم الرئيس منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979. وهكذا احتل الأميركيون البلدين اللذين اختاروهما، وأحلوا فيهما نظامين صديقين لإيران منذ عام 2002 وحتى اليوم. والذي أراه أن شيئا من ذلك لم يتغير لا في السياسات الأميركية، ولا في السياسات الإيرانية، وإنما حدثت المتغيرات في أفغانستان ولدى العرب. فقد قال لي برنارد لويس، المستشرق اليميني المشهور، عام 2007 عندما اشتد عناء الأميركيين في مستعمراتهم الجديدة: «الاستعمار الأميركي فاشل وقصير الأمد». وقال بول كيندي في كتابه «صعود الإمبراطوريات وانهيارها» إن الإمبراطوريات لا تسقط بسبب العجز العسكري، بل بسبب العجز عن الإنفاق! وهذا صحيح تماما في الحالة التي بين أيدينا، إذ ماذا يعني سقوط سبعة آلاف قتيل للأميركيين في حربي أفغانستان والعراق، وعلى مدى أكثر من عقد من الزمان؟
المهم أن الأميركيين مع تغير المزاج، وكثرة الأعباء، قرروا الانسحاب من البلدين (2011، 2014). واتفقوا مع إيران على تسليمها العراق والمناطق الشيعية بأفغانستان، وأخذوا منها وعدا بمحادثات جدية في النووي، وعدم التحرش بإسرائيل. وبهذا المعنى ما تغير عليهم شيء ما كانوا قد توقعوه عندما دخلوا إلى البلدين غازين. وإنما حدث الفرق عندما عجزوا هم والإيرانيون وحكومة كرزاي عن إخماد مقاومة طالبان، التي امتدت حربها عليهم إلى باكستان. ولذلك قرر الجميع (أي أميركا وإيران وكرزاي) عام 2012 التفاوض مع طالبان لتشارك في السلطة هناك، والأرجح أن تسيطر على البلاد من جديد! وبدا أن الجزء الخاص بالشرق الأوسط من سياستهم ناجح لأول وهلة، فحزب الله ما تحرش بإسرائيل بعد عام 2006، والإيرانيون راضون، وكثير من العرب خاضعون لهذا التقاسم الذي دخلت فيه تركيا أيضا، وليس في العراق (مع الأكراد)، بل في سوريا مع النظام «المتنور» لبشار الأسد! ثم حدثت الثورات العربية عام 2011، وامتدت امتداد النار في الهشيم وصولا إلى سوريا الأسد! ورأت الولايات المتحدة في ذلك فرصة لدبلوماسيتها ولإمكان مصالحة مع العرب الذين باعتهم عدة مرات من قبل. وهكذا قاتلت بليبيا، وساعدت «الإخوان المسلمين» بمصر في مواجهة القوى المدنية والجيش، ودعا أوباما الأسد إلى التنحي. وبدت هذه «الانتصارات» لسياسة أوباما من دون ثمن أو أعباء. لكن الإيرانيين ما تلاءموا ولا غيروا حتى الآن. بل إن «الأعباء» التي كانت الولايات المتحدة تتحملها عنهم، صار عليهم هم الآن أن يتحملوها من النواحي المادية والعسكرية. فهم ينفقون المليارات على النظام الأسدي بالداخل، ويشترون له السلاح من روسيا وكوريا الشمالية، وهم يقاتلون بأنفسهم وبحزب الله وبالميليشيات الشيعية العراقية وغير العراقية إلى جانبه. ثم هم ينفقون مالا وسلاحا واستخبارات في عشرات البلدان!
ولأول مرة منذ أكثر من عقدين، ما عاد العرب مجرد ضحايا أو متمردين إرهابيين، فهم يقاتلون في سوريا ليس ضد نظام الأسد وحده، بل ضد الروس والإيرانيين والميليشيات التي استوردتها إيران إلى سوريا. ثم إنهم حولوا مع الجيش المصري مسار الضياع والتضييع الذي استنه «الإخوان المسلمون» (أصدقاء إيران) في مصر. وفي بدايات حركات التغيير العربية، وعندما بدا أن الأمور سائرة إلى في غير محلها في البحرين واليمن بسبب هجمة إيران الجديدة، عملوا على احتواء التأزم في البحرين، واجترحوا حلا سياسيا في اليمن ما يزال يصارع باتجاه النجاح رغم الصعوبات الكثيرة.
لقد كان الصراع في المنطقة، ومنذ أكثر من عقدين، صراعا على العرب، أي على أرضهم وثرواتهم ودولهم وإرادتهم. ويبلغ من حدته الآن أن وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل قال قبل أيام، في إشارة إلى مصر وسوريا، إنه صراع على الهوية والانتماء، أي على العروبة ذاتها. إنما الفرق أنهم ما كانوا في السابق غير «موضوع» لهذا الصراع، وهم الآن لاعب وطرف، فيما يشبه الدخول في عمليات «تقرير المصير» لدى الأمم الكبرى في اللحظات الحاسمة في التاريخ. إن الإيرانيين ومنذ أكثر من عقد يتحدون سيادة العرب وأرضهم واستقرار دولهم ووحدة مجتمعاتهم. لقد دخلوا في كل شيء حتى في التشيع والتسنن، وفي تحديد ما هو الإسلام الصحيح: ويتحدث خامنئي والأمين العام لحزب الله عن الفتنة وعن التكفيريين، وهم يتحركون لضرب الناس، وتقسيم البلدان، وبالسلاح، والعنف في سوريا والعراق والبحرين واليمن وفلسطين. لكن «الحضور العربي» الجديد بعد طوال غياب، لا يحدث مشاكل مع الإيرانيين فقط، بل تتعاظم المشكلة مع الإسرائيليين، ولا تنتهي مع الأتراك. ولا تنحصر المشكلة مع الأميركيين فيما فعلوه في الماضي، ولا في هل يضربون الأسد من أجل الكيماوي أو لا يضربونه؛ بل هناك التغيير الإيجابي في مصر الذي عارضه الأميركيون بشدة. وبسبب التضعضع الأميركي، والشراستين الإيرانية والإسرائيلية، يتدخل الروس لاستعادة مواقعهم، في أسوأ قضية وظرف: القتال مع الأسد ضد شعبه! هل هو تداعي الأكلة على القصعة، كما أنذرنا رسول الله (صلوات الله وسلامه عليه)؟ لا ليس الأمر كذلك، لأن الجميع حاضرون ومناضلون وليسوا غثاء كغثاء السيل.
يعاني العرب اليوم إذن من الاختراقات التي أحدثت انقسامات. ويعانون من تعود الإقليميين والدوليين على غيابهم وعلى التمردات العبثية لبعض شبابهم. لكنهم صاروا حاضرين وطرفا قويا في الصراع على تقرير المصير واستعادة الانتماء وانتظام المجتمعات والدول. فالمطلوب الصبر والصمود في مواجهة التحديات، لأن المشكلات السالفة الذكر هي مشكلات الحضور والنجاح، وليست مشكلات الفشل.