الدارسون المحايدون للمسألة السنية الشيعية يعلمون جيدا أنه لا توجد قضية دينية مذهبية حقيقية وراء هذا الخلاف، وأن جوهر المسألة هو صراع على السلطة، أما الاختلافات الدينية فقد جاءت متأخرة عن الصراع السياسى بقرنين من الزمن تقريبا، حتى أن مذهب “أهل السنة والجماعة” بهذه التسمية لم يظهر إلا فى عهد الخليفة العباسى المتوكل عام 232ه. وأن أقدم أئمة السنة ظهر سنة 150 هجرية وهو أبو حنيفة، وبعده مالك عام179 ه، ثم الأوزعى 181 ه، والشافعى 204 ه، وبن حنبل 241 ه. أما كتبة الأحاديث السنية الكبار فقد ظهروا بعد أكثر من قرنين من موت نبى الإسلام، مثل البخارى 256ه،ومسلم 261ه، وأبو داود 275 ه، والنسائى 303ه، وابن ماجه 275، وأحدثهم الترمذى 178 ه. وردا على ذلك ظهر كتبة الاحاديث الكبار من الشيعة مثل الكلينى المتوفى عام 328ه، وابن بويه المتوفى عام 381 ه، والطوسى المتوفى عام 460ه. معنى هذا أن كل مذهب صنع دينه الخاص بعد الخلاف السياسى،وأن هذه الكتب المليئة بالخلافات العقائدية بين السنة والشيعة ما هى إلا نتاج إمتداد الصراع السياسى والدموى بينهم، ومن ثم وجوب تبرير ذلك أمام التابعين بخلق خلافات مذهبية وعقائدية واسعة، بل وتكفير بعضهم للبعض….ما هو إذن أصل وجوهر الخلاف السياسى بينهم؟.
أصل الخلاف السياسى ظهر بعد موت نبى الإسلام حيث أتفق أبو بكر وعمر بن الخطاب معا على ترتيب تولية الخلافة كالأتى: أبو بكر ثم عمر بن الخطاب ثم أبو عبيدة بن الجراح، مستبعدين على بن ابى طالب من الصورة على الرغم من أنه من احق الناس بالخلافة كما أجمع المؤرخون الثقأة على ذلك. حاول الخليفة أبو بكر فى البداية تحييد الأنصار فى المدينة من التطلع للخلافة بقوله أنه سمع من النبى ” أن الخلافة فى قريش”، ولما سمع على بن ابى طالب ذلك قال ” والله لقد تمسكوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة”، بمعنى أنه هو ثمرة قريش المستحقة لهذه الخلافة، ولم يقتنع الأنصار أنفسهم بمقولة أبو بكر وظل سيدهم سعد بن عبادة رافضا للخلافة حتى سمه عمر بن الخطاب فى ولايته. مشيت الخطة كما أتفق عليه عمر وأبو بكر وتولى عمر الخلافة بتوصية خاصة من أبو بكر وفرض بيعته بالقوة، ولكن مات أبو عبيدة بن الجراح فى عهد عمر ومن ثم لم تتحقق الخطة كاملة، وقال عمر بن الخطاب وقت وفاته كما جاء فى الفتنة الكبرى لطه حسين ” لو كان أبو عبيدة حيا لأستخلفته”، ولكن أمعانا فى أستبعاد على، أوصى عمر ستة أشخاص بتحديد الخليفة بعده ولكن تركيبتهم كانت تعنى عمليا تسليم الخلافة لعثمان بن عفان، وقال على بن أبى طالب بعد أختيار عثمان” خدعة وأى خدعة”….المهم من هذا السرد أن على بن ابى طالب بايع الخلفاء الثلاثة الذين جاءوا قبله مكرها أو خائفا من الفتنة، بمعنى أنه لم يكن هناك خلافا دينيا أو مذهبيا بل تنافس طبيعى على السلطة، وأيضا لم يطعن علي فى إيمانهم أو فى إسلامهم بعد ذلك وهذا يؤكد طبيعة الخلاف السياسى.
بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان كان من الطبيعى أن يأتى الدور لعلي ليكون الخليفة الرابع، ولكن وضع معاوية بن أبى سفيان كان قد تضخم فى عهد قريبه عثمان بن عفان الذى ولاه على سوريا والعراق وفلسطين والاردن، فطمع معاوية فى الخلافة مبررا ذلك بالثأر لعثمان بن عفان الذى كان على بن ابى طالب من معارضيه فى سنواته الستة الأخيرة، وكانت الحجة الثأر لقميص عثمان كما يقول المثل الشائع.
قضى الأمام على فى الخلافة أربعة سنوات و9 أشهر كانت كلها حروب من آجل فرض بيعته، فحارب عائشة وأصحابها فى معركة الجمل الشهيرة، وبعد أنتصاره عليها حارب معاوية فى معركة صفين، ولم ينتصر أى منهما، ثم حارب الخوارج فى معركة النهروان للقضاء على معارضتهم له فى الكوفة، وفى عام 661 ه قتله أحد الخوارج غيلة ورحل الرجل ولم تستتب له الخلافة فى الدولة الإسلامية كلها بل كانت منقسمة بين مؤيديه وبين اعداءه. بعد وفاته بايع أنصار على الحسن أبنه ليعلن نفسه خليفة، واجتمع له جيش كبير من أنصار والده فى الكوفة وأتجه لحرب معاوية ولكن معاوية رشى قادته ، علاوة على شخصية الحسن المزواج حيث لم يكن شخص محبا للحرب، فتنازل لمعاوية عن الخلافة مقابل مبلغ مالى كبير والتشاور مع المسلمين فيمن يخلفه، ولكن معاوية لم يهدأ وغدر به، وحرض أحدى زوجاته وأسمها جعدة على أن تضع له السم فى الطعام، ومات الحسن بن على مسموما، فبايع أنصار والده أخيه الحسين خليفة، واتجه الحسين إلى الكوفة لحشد أتباعه لمحاربة يزيد بن معاوية الذى ورث حكم أبيه، ولكن قائد يزيد أستقبله بجيش كبير قبل دخول المدينة وقبل أن يلتقى أتباعه، وكان معه فقط أخوته وأفراد أسرته وعددهم 72 شخصا، وذلك فى منطقة كربلاء بالعراق فى 10 محرم عام 61 ه الموافق 12 أكتوبر عام 689 م، وخيره قائد يزيد بين الإستسلام ومبايعة يزيد أو القتل، ولكن شجاعة الحسين وأخلاصه لوالده وأتباعه حسمت موقفه الأخلاقى برفض الإستسلام وقاتل ببسالة حتى قتل ومعه 7 من اشقاءه، وأثنين من أبناءه، وأثنين من أبناء أخوه الحسن ، فكانت مجزرة رهيبة لأحفاد نبى الإسلام. ورغم أن طه حسين فى كتابه ” الفتنة الكبرى” يعتبر أن لقاء الحسن بن على بالوافدين اليه من الكوفة وقوله لهم ” أنتم شيعتنا وأهل مودتنا” أنه البداية الحقيقية للحزب الشيعى ومن ثم المذهب الشيعى، إلا أننى أعتقد أن القطيعة والعداوة الكاملة مع الخلافة الأموية وبعدها العباسية ثم مع السنة حدثت بعد مجزرة كربلاء التى يحتفل بها الشيعة كل عام يوم عاشوراء، حيث أنها تتشابه لديهم بأحتفال المسيحيين بصلب المسيح يوم الجمعة العظيمة.
بعد هذا التاريخ حدث تطور مختلف للسنة والشيعة، فعند السنة أصبح كل من يستطيع بالقوة الإستيلاء على السلطة ويقود المسلمين للغزوات هو لديهم خليفة وإمام معترف به، سواء كان أمويا أو عباسيا أو حتى تركيا من القبائل الهمجية التى جاءت من اسيا الصغرى، أما الشيعة فالإمام لديهم هو فقط من يأتى من ذرية على بن أبى طالب ومن نسل الحسين أبن على. وكما أنقسم السنة عبر التاريخ إلى مذاهب أربعة وعدد كبير جدا من الفرق الدينية، أنقسم الشيعة بدورهم إلى عدة فرق وفقا لتسلسل إيمانهم بالإئمة، فمعظم الشيعة يؤمنون بإثنى عشر إمام آخرهم الإمام الغائب محمد المهدى الذى أختفى حسب زعمهم عام 939 ميلادية وهم ينتظرون عودته ليملأ الدنيا عدلا وخيرا، أما الشيعة الذين أكتفوا بالإمام الخامس فقط من نسل الحسين وهو زيد بن على فقد تسموا بالزيدية نسبة إلى زيد، وهم الحوثيين فى اليمن حاليا، وهناك الذين توقفوا عند الإمام السادس إسماعيل بن جعفر فقد تسموا بالشيعة الإسماعيلية، وهناك من توقفوا عند الإمام الحادى عشر نصير، فقد تسموا بالنصيرية أو العلويين وهم الموجودين فى سوريا وتركيا.
صنف الخلفاء السنة الشيعة بأنهم المعارضين وأعداء النظام من الناحية السياسية والكفار والزنادقة من الناحية الدينية وأضطهدوهم إضطهادا مريرا عبر التاريخ يطول شرحه، وقد أطلقوا عليهم الروافض، أى الرافضين لصحابة الرسول، فى حين أطلق الشيعة على السنة النواصب، أى الذين يناصبون آل بيت الرسول العداء.. وسيطر السنة على السياسة والحكم ولم يتح للشيعة تكوين دولة سوى الدولة الفاطمية فى مصر فى القرن العاشر الميلادى، والدولة الصفوية فى إيران فى القرن السادس عشر الميلادى، وبخلاف ذلك عاشوا أقليات مضطهدة فى الدول السنية.
فى الوقت الحالى يشكل الشيعة 98% فى إيران، و70% فى البحرين، و 65% فى العراق، و 10% فى السعودية، 25% فى الكويت، 20% فى قطر، 35% فى لبنان، و17% فى تركيا، 20% فى أفغانستان، و20% فى باكستان، 30-50% من سكان اليمن، 13% فى سوريا.
وتحول التاريخ الإسلامى إلى جولات للصراع بين السنة والشيعة، وجاءت جولة الصراع الأخيرة بعد سقوط نظام صدام وتحذير ملك الأردن من بروز الهلال الشيعى، وبعد ما يسمى بالربيع العربى ظهر الصراع السنى الشيعى بوضوح فى سوريا واليمن والعراق والبحرين ولبنان، ومازالت حرب تكسير العظام دائرة، والتى بناء عليها سيتحقق شكل الشرق الأوسط الجديد، ومع عاصفة الحزم تحاول السعودية تجميع السنة فى العالم لخوض حربا طائفية ضد الشيعة ستكون كارثية على أرواح البشر، وهى بدون هدف سياسى سوى بعث الصراع القديم واجترار الأحقاد المدفونة.