منذ الأساطير اليونانية يضع الإنسان الروايات عن الصراع الذي يعيشه. ربما أكثر الأعمال المعاصرة شيوعا في هذا الحقل: «موبي ديك»، لهرمان ملفيل؛ حكاية صراع ملاح جبار مع حوت جبار يلاحق مركبه. و«صخرة سيزيف» الأسطورة التي حولها ألبير كامو إلى عمل حديث. و«الشيخ والبحر» التي نال عنها إرنست همنغواي نوبل 1954 وأعتقد أنها أجمل وأعمق وأقصر أعماله. وفيها حكاية صياد كوبي عجوز يبخل عليه البحر بالقوت، وإذ يقرر أن يدر عليه صيدا، يعطيه سمكة أضخم من قاربه. هكذا نشهد الصياد سانتياغو يصارع للفوز بسمكة «المارلين»، يصارع الموج، ويصارع الحيتان التي تذوقت دماء المارلين فازدادت شراسة، ويصارع تعبه ووهنه.. «كل شيء فيه عجوز ما عدا عينيه». تذكر هذه الصورة بالمقدمة التي كتبها الفرنسي تيوفيل غوتييه لأعمال الألماني هاينريش هانيه عندما زاره في أيامه الأخيرة: رفع جفنه بإصبعه «لكي يراني».
البطل هنا، ليس الفوز نفسه، بل الكفاح. يمضي سانتياغو يومين كاملين في مصارعة عدوّه، الذي يخاطبه أحيانا بلقب «الأخ»، يتمزق خلالهما عضله، لكن لا تتمزق عزيمته. لقد مضى عليه نحو 84 يوما من غير كسب في هذا الخليج القاسي، وصار أهل الشاطئ يعتبرونه «منحوسا» والأفضل ألاَّ يقربوه. ومانولين، الفتى الذي يساعده عادة، منعه أهله من العمل معه، فصار يزوره سرا.
صورت رواية «الشيخ والبحر» في فيلم مثَّله سبنسر تريسي، أحد أهم عمالقة هوليوود، كما صوَّر «موبي ديك» في فيلم لعب دور بطولته الممثل غريغوري بك. أذكر أن الأول كان بالأسود والأبيض، والثاني لا أذكر تماما إن كان بالألوان. لكن الذي لا أنساه هو كم يتجاوز الفنان أحيانا قدرات راسمه. لا أعتقد أن همنغواي، في أقصى درجات دراسته وبحثه والأيام التي عاش فيها حياة الصيّادين في كوبا، أمكن له أن يتخيل أن يكون بطله معبِّرا مثل سبنسر تريسي. ولا أعتقد أن ملفيل، الذي استقى روايته من حياة قاسية في البحر، تصور أداء مثل أداء غريغوري بك.
قلت «موبي ديك» رواية صعبة القراءة، فيما عرفت «الشيخ والبحر» هوى بين الكتّاب والروائيين العرب. فقد ظهرت في الوقت الذي ازدهرت فيه الترجمات الأدبية في مصر ولبنان. ولم تكن الترجمة، آنذاك، للقراءة فقط بل للتفاعل أيضا. وكانت حركة الإنتاج الأدبي موازية للشغف الأدبي في البلاد المصدرة، من أميركا إلى فرنسا. ولم يكن اللاتينيون قد بدأوا بالوصول بعد. ولا كانوا قد ظهروا تماما في أميركا أو فرنسا، فلما فعلوا، كان ذلك اجتياحا. ولم يتردد نابليون مثل غارسيا ماركيز، وفارغاس يوسا، بالقول إنهم أبناء وليام فولكنر. لم ينجُ أحد من التأثر به.
منقول عن الشرق الاوسط