من ذا الذي لا يعرف الشيخ الفضيل فنادرا ما يخلو منه تليفزيون شرق أوسطي، يعرفه الأطفال ومن بلغ الحلم لكن عشقه يأتي من الكبار مولوه برصيد هائـــل من الولاء والحب بعد فراغ الساحة من شخص مثل عبد الناصر. في بساطة الريف وأريحيته تأتى لغته ومن سطوة المنبر والجامع يستمد هيبته ومن قدسية النص الشارح له يسحب البساط من تحت مؤخرة سامعيه وهم جلوس.
يجلس متربعا كأنه الله في يوم الحساب لجموع بشرية شاخصة إليه من تحت قدميه لا يجرؤ أحـــد علي نبت شفه قناعة منهم بأنهم مريدين وهو العليم تبدو مهارته التي لا يباري فيها، ليس في قدرته علي توصيل نص مفحم شفاهه، إنما باستخدام لغة الجسد الإشارية التي تسبق تطوريا نطق اللسان عند بني البشر. فقسمات الوجه وحركات اليدين وتلوي الجسد ونبرة الصوت كلها أسلحة لا راد لقضائها إذا ما كان السامعون من جميع الطبقات في مصر الثورة. ما اسهل النفاذ من خلالهم ببساطة بعد عشوائية وارتباك الحراك الاجتماعي والسياسي في الحياة المصرية لاربعين عاما مضت.
في شرحه يزاوج المقدس بالشعبي والفصحي بالعامية يهزم الباطل بكلمــات يتطهر معها السامعين في مغسل الجمعة من كل أسبوع. هو واحد منهم ومتعال عنهم ما يقوله هو نفس ما يجول بخاطرهم قياما وقعودا وعلي جنوبهم فياله من توكيـــد لذواتهم العليلة وتصديقا لمكنون فكرهم المريض. يأتيهم من فوق منبر ويتحدث نيابة عمن هو في علين. هكذا تسقط الحواجز الداخلية التي تخفي شبهة شك فيما هم به مؤمنون. ويخرج المريدون في رضا مبددين شكوكا. لكنهم يعيدون الكرة كل أسبوع لاسباب لا تخفي علي لبيب. فما كان مبهما في أذهانهم أصبح راسخا وما كانوا فيه من شك بات إيمانا ويقينا دون أي إضافة من الشيخ الجليل. ويتكرر العرض من كل أسبوع بتكرار قهري ووسواس. هكذا يصبح خطاب الآخرين اسفل المنبر وخارج الجامع وفي المدارس والجامعات من لغو الحديث يجهد العقول ولا يرضي السامعين من كفر بواح وجهل المدعين.
إنهم العوام بعد تعليم مجاني وتأميم وبعد العمل عند الرأسمالي الكبير الدولة ذاتها. إنها الطبقة الوسطي انتقلت من ريف إلى حضر حاملة معا قيم الزراعة القديمة التقليدية إلى مدن لاهية يحكمها تقسيم عمل لا بطأ فيه. جاءوا بازيائها الملوثة بطين الحقل وروث البهائم. وجلس علي المنبر من بدي مظهره نظيفا وكانه العمدة في اوطانهم التي رحلوا عنها. ازدحمت بهم المدن بالإنجاب الريفي الذي لا يعرف الحدود. هكذا ضاق الرزق فارتدوا إلى عمال تراحيل موسميين في بلاد النفط بعد فقدانهم مهارة الزراعة في موطنهم الأصلي وعجزهم عن اكتساب قدرات الصناعة رغم حملهم شهادات موثقة بأنهم متعلمون.
شدد الشيخ وحذر وهدد دوما وأنذر علي ألا ينصت المريدين لأي معرفة خارج ما يلقيه علي سمعهم. فهو من العلماء إن لم يكن كبيرهم وباعتراف النص يخشون ويخشي منهم . إنها النخبة في عليائها، تعكسها وتصنعها حاجة المريدين الملحة بسبب فقرهم العقلي بعد أن خبت الثورة التي صاغت وضعهم المتدني وصاغت أيضا مقام النخبة.
يلجأ الحواة إلى حيل تبدوا معجزات يهيم بها المشدوهين من المتفرجين أملا في أن تكون حقيقة قابلة للتحقق يوما فربما تحل مشاكل وتنفك عقد دون أثمان تذكر. وجد الشيخ ضالته عندما تحققت المعجزة وبشهادة الجالسين في حضرته وقت أن تحول بدو الصحراء، وهم دون الريف، إلى ما بعد الحداثة برائحة النفط وأرصدة البنوك ذات البأس، فهم لم يشقوا ترعة ولم يفلحوا حقلا ولم يتسطحوا قطارا ولم يعملوا في مصنع ولم يتظاهروا في نقابة ولم ينسحبوا في كل مرة من سيناء لم يسددوا فاتورة واحدة وحصلوا علي كل شئ إنها معجزة المعجزات فيالها من عصا مغشوشة تلك التي كانت بيمين موسى.
لقد اشتروا واجروا جيوشا تحارب عنهم ولهم، في طاعة وأدب لتأديب المرتدين في القاهرة و بغداد والحواضر العربية بعد أن أصـــابهم فساد الريف وفســق المدن وتأديبا لهم علي اللعب بالقوميــة والكلام بأيديولوجيات غير موحى بها، تنضح بالكفر والعياذ بالله.
هنا وجدت رثاثة المدن ضالتها في شيخ يفسر كل شئ دون تناقض واحد. لقد أعطاهم ما يسوغ به وجودهم ومعرفتهم ويردد أيضا صدق ما أتت به الصحراء يوما معطيا أصحابها شهادة منشأ جديدة بعد انتهاء الصلاحية وإحساس مرير بمهانة الإملاق والعوز، إنه الريفي الغريب يشهد للبدو بالتفوق علي قومه أجمعين. هكذا تولد عقد النقص والإحساس بالدونية. إنها نفس الأهداف التي جاءت بذات الشيخ بترشيح نخب ثــورة وطنه. إنها المعادلة التلفيقية العامة لقوانين الاستبداد السياسي بتلفيق العلم والإيمان، الثورة والخضوع، النضال والطاعة، المعرفة والجهل. معادلة تشوه الجميــع ومحصلتها صفرا.
هكذا قدم الشيخ، الكاريزمي الشخصية، وصفته السحـــرية لرديف الريف وسكان المدن وكافأته السلطة السياسية لوصله ما انقطع تأثيره بعد أن خسرت كثيرا من أوراقها في مسلسل هزائم أمام ربيبه الاستعمار وليس الاستعمار ذاته فقام الشيخ بدور ورقة التوت الغالية إنها أدوار الترغيب والترهيب ، العصا والجزرة ، الميثاق والقرآن. محمد البدري (مفكر حر)؟