رستم محمود : المدن
إلى روح عمر عزيز سمح لنا عقد الصبا أن نتعرّف على الحساسيات المجتمعية السورية كلها، من خلال الدراسة والعمل الأوّل في دمشق. فمع بداية الألفية الجديدة، كانت المدينة قد أصبحت خمسة أضعاف ما كانت عليه قبل عقدين فحسب. مدينة ممتدّة على أحياء مترامية، تجمع قرابة الخمسة ملايين سوري، قادمين، لسوء الهيكلة التنمويّة والتخطيط الاقتصادي، من الجهويات والحساسيات السورية الشتى. فتحوّلت بنية الاقتصاد السوري من شكله المتنوّع، الزراعي والتجاري وشبه الصناعي، نحو الاقتصاد الخدماتي. ركز التنمية في العاصمة ومحيطها، بما يشبه ما كان جرى في كثير من البلدان خلال حقبة ما بعد “الاقتصاد المركزي الموجّه”. سمحت لنا سنوات الصبا العشر تلك، نتيجة ذلك الظرف الاستثنائي، التعرّف على سورية، الثقافية والمجتمعية، من خلال العيش والتنقّل بين “بيئات” دمشق الشتّى. الشوام، كانوا الوحيدين الذين لم نستطع “اكتشافهم” في دمشق تلك. سكّانها التاريخيون التقليديون. فقد بقوا كتلة مجتمعية وحاراتية متكوّرة على ذاتها، غريبة عنا، نحن سكان دمشق “الجدد” (كان الشوام يسمّوننا بـ”الدمشقيين”). بعض الصداقات وأشكال التعارف والتعامل اليومية العابرة معهم كانت تقريباً تعني لا شيء. فالحساسية المجتمعية الشامية العميقة بقيت، غريبة وصمّاء عنا. كانت صورة “الشوام” المتخيّلة، بالغة القسوة في أذهاننا. بدوا تجاريّين محافظين محليّين منغلقين ولا يحبّون الغرباء. كان ثمة ركون، من قبلنا، لتلك الصورة عن الفرد الشامي، وكانت ثمة صور لا تقل قسوة عن تلك، يحملها الشامي عنّا.
هاتان المخيلتان كانتا العامل الأكثر حيوية وفاعلية في اغترابنا المتبادل. ثلاثة عوامل جوهرية كانت قد ساهمت في ذلك، أي في تكوير وعزل كتلة مجتمع دمشق التاريخي عن محيطها الحيوي المجتمعي الحديث. فمن طرف، كان ذلك سلوكاً مجتمعياً “بيولوجياً” طبيعياً، أتى كردّة فعل انعكاسية لتدفّق الحساسيات الجهوية الطرفية الريفية السورية على المدينة، بكثافة ضاعفت سكان المدينة عدة مرات، لعقدين فحسب. تلك التدفّقات التي كسرت هدوء المدينة واستقرارها المديد، وعقودها المجتمعية غير المكتوبة. على طرف آخر، كان ذلك نتيجة لإخراج أهل المدينة التاريخيين من دورة الحياة العامة، وسحب الرأسمال المجتمعي، الرمزي والمادي منهم. حتى القليل المادّي الذي كان قد بقي لهم، في الوسط التجاري الدمشقي، كان رجالات السلطة بدأوا يزاحمونهم عليه. فطبيعة الطبقة البيروقراطية والأمنية والتجارية السريعة “الرثّة” التي كانت تحتاجها السلطة، في عقديها الأخرين، كانت تدفع تلقائياً سكان المدينة لخارج الفعل العام، وبالتالي لتكوّرهم وعزلتهم. عامل ثالث وأخير، كان نتيجة لصعود شكل من الإسلام السوري المحافظ، يخلط بين اليومي المجتمعي والإيدلوجي السياسي. حدث ذلك، في كل المدن السورية الداخلية التاريخية، عقب أحداث الثمانينات، ومنها دمشق.
سيرة معاكسة لذلك تماماً جرت منذ حادثة “سوق الحريقة” الشهير في دمشق، التي وقعت قبل عامين بالضبط، واعتبرت الشرارة الأولى للثورة السورية. تجمّع شباب شوام وردّدوا شعار اليوميات السورية الأشهر: “الشعب السوري ما بينذل” . منذ ذلك الحين وحيوية وآلية مغايرة تماماً تظهر في الفعل المجتمعي الشامي. فالشوام ناشطون في الحقل العام بحيّوية بالغة، وحاراتهم هي الأكثر غلياناً في الحدث السوري. شبابهم غير معزولين عن باقي الشباب السوري، وتظهر منهم يومياً رموز وتعبيرات لا تُختصر. في الشام، ثمة ميل واضح عند طبقتهم التجارية الثرية للانخراط في الشأن العام السوري وأسئلته. في الشام، كسرت العلاقة الباردة بين حلقة الريف الشامي الممتدّ ومركز المدينة.
الأهم مع الثورة، أن “الماسونية المجتمعية” الطبيعية في كل المدن التاريخية كدمشق، وتراتبية العائلات وعلاقاتهم، والتي كانت مصدراً رئيسياً للرأسمال الاجتماعي، الأهم أن كل ذلك تحطّم مع الثورة، لصالح انضمام الأفراد “السوريين الشوام”إلى صفوفها. مع الثورة لم نكتشف فقط أن الشوام ليسوا “تجاريين ومحافظين ومحليين ومنغلقين ولا يحبون الغرباء”، الظاهر أنهم أيضا اكتشفوا أنفسهم. فالركود، الذي كان، كان مصدراً لحالات الاغتراب كلها، حتى عن الذات