عبرت الثورة السورية عن انفجار صراع شامل بكل معنى الكلمة، بين واقع الشمولية الاستبدادية التي يجسدها النظام ومبدأ الحرية الذي جسده مجتمع سوريا الثائر ضده، بغض النظر عما آل إليه مبدأ الحرية اليوم، وانتهى إلى انتقاله من طور الإعلان المدوي عن نفسه إلى طور كمون متزايد لدى أغلبية شعبية وازنة، تعرض قسم كبير منها للتحييد تحت وطأة العنف السلطوي الشامل، وتأثير ردود فعل أطراف متعسكرة برزت مع تنامي أصولية تجسد شمولية سياسية ومذهبية مضاعفة، تحملها تيارات قاعدية الهوى والممارسات، وتعد بتطبيقها بالعنف والغلبة، أسهم تقدمها السريع خلال الفترة الأخيرة في تراجع دور المعارضة الديمقراطية والوطنية، وفرض عليها الرضوخ لأساليب عمل تقوم أساسا على المال السياسي والسلاح: المحددين الرئيسين لأدوار الفاعلين السوريين في ساحة الصراع.
وعلى الرغم من أن ظاهرة الشمولية غدت كبيرة الوزن في سوريا بسبب انطباع الصراع بطابع الشمولية المذهبية، فإن هذه الأخيرة تقوم على العداء لما يماثلها من استبداد سياسي، قومجي الهوية، مارسه النظام الأسدي طيلة نيف ونصف قرن، ولحملة النزعة الديمقراطية الذين ترى فيهم علمانيين لا بد من تحجيمهم والقضاء عليهم، شأنهم في ذلك شأن أي مواطن سوري لا يقاسمهم معتقداتهم.
مع تراجع مبدأ الحرية تحت وطأة عنف السلطة، ظهرت التنظيمات المسلحة والأصولية التي لطالما آمن النظام بأن معركته معها ستكون أسهل من معركته مع شعب الحرية السلمي والأعزل، وأن قدرته على مواجهتها ستتعاظم نتيجة انحياز قطاعات مجتمعية متزايدة إليه، وتخليها عن ثورة لم تعد تعمل بمبدئها الأصلي، أي بالحرية، وتجد نفسها مكرهة على اعتماد سياسة جديدة حيالها تأخذ بمبدأ «أهون الشرين»، الذي سيدفعها إلى المفاضلة بين استبداد النظام الرسمي واستبداد الأصولية التي تصعد على بحر من دماء المواطنين عامة ومنافسيها من المقاتلين خاصة.
وزاد الطين بلة الطابع الإقليمي الذي اكتسبه طرفا القتال، فقد استعان النظام بالقوى الإقليمية التي تشبهه أو تنحاز إليه، بينما تدفق أصوليون من جنسيات متنوعة على الداخل السوري، وعبر عن شدة حضورهم فيه قيام أحد تنظيماتهم بإلغاء الدولة السورية ودمجها في دولة إسلامية أطلق عليها اسم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، والتي تضم أخلاطا من عرب ومسلمين وأجانب جاءوا إلى سوريا في سياق تمركز ظاهرة الأصولية القاعدية تمركزا متزايدا خلال الأعوام القليلة المنصرمة في العالم العربي وشمال أفريقيا ومنطقة جنوب الصحراء. وفي حين يشارك في الجانب الأول جبابرة إقليميون كدولة إيران، فإن الجانب الثاني يتمتع بحضور جدي في صفوف جمهور واسع من المسلمين يجد نفسه محروما من أبسط حقوقه السياسية والاجتماعية والدينية، الأمر الذي يفسر الانقسام الحاصل تجاه الاستبداد السياسي/ المذهبي الرسمي، الذي يمثل أقلية حاكمة منظمة وعنيفة إلى أبعد حد، تواجه كتلة بشرية هائلة سلبت حقوقها ولا تجد ما تستعيدها به غير عقيدتها الدينية واستعدادها للقتال بأقصى قدر من العنف، حيث وضعها النظام في موقع لا خيار لها فيه غير الموت تحت التعذيب وخلال عمليات التصفية الواسعة التي ستليه، أو الموت في ساحات القتال وتجريب حظها هناك عبر ممارسات انتحارية واسعة.
ببعديه المحلي والإقليمي، اكتسب الصراع بين الشمولية القائمة وبديلها الأصولي المحتمل طابعا دوليا تقف في جانب منه قوى متنوعة بعضها دهري الخطاب، بينما يفتقر الجانب الآخر إلى دعم دولي، ويواجه تعاون دول ترفع لواء الحرية مع حلف الشمولية الأول، ولا يجد ما يرد به على وضعه غير مزيد من التمسك بالعنف وبأشكال من التنظيم مغرقة في السرية والقسوة، تطبق ممارساتها حتى ضد الأنصار والأتباع والمريدين. ولعل أعظم مشكلة تواجه الأصولية المذهبية اليوم تكمن في احتمال تشكيل تحالف دولي ضدها لا شك في أنه سيكون خطيرا عليها إذا ما انتقلت دوله «الحرة» إلى التفاهم مع الشمولية السلطوية الرسمية.
تستحق ظاهرة الانتقال من صراع الحرية ضد الشمولية إلى الصراع بين شموليتين الكثير من الدراسة والتأمل. لكن السؤال المهم يبقى: هل بلغ هذا الصراع ذروته وشرع ينحسر، أم أنه مرشح، كما أعتقد، لمزيد من التصعيد والتعقيد والاستمرار، رغم كل ما يشاع عن مؤتمرات وتسويات دولية في جنيف وغيرها، وما يرتسم في الأفق من بوادر تحسن في علاقات دول ظلت متعادية طيلة قرابة ثلث قرن، وتبدو اليوم وكأنها تطوي صفحة الماضي وتتجه نحو مسار جديد؟
منقول عن الشرق الاوسط