قبل ايام صدر قانون لتنظيم التظاهرات في مصر…البعض رحب و اخرون كثيرون انتقدوا القانون كونه يعتبر تراجعا عن قيمة إعلاء الصوت و الحق في الصراخ حينما يشعر الانسان بالوجع… بلا شك هناك الملايين ممن ما زال يشعر بالوجع… ذلك الوجع الذي شكل احد أسباب القيام بالثورة… او الثورات من بداية 2011 و حتى صيف هذا العام… بل لحد الان بدرجة او باخرى… و في هذا الاتجاه او ذاك… و من المؤكد ان هذه الحالة من التظاهر المستمر هو ما دفع الحكم القائم في مصر لإصدار هذا القانون الغريب… او غير الضروري وفق رأي القانونيين كون مواده موجودة فعلا في قوانين اخرى سابقة….رغم معرفة الجميع ان القانون الجديد لن يكون له تأثير حقيقي في الشارع و ربما تقتصر قيمته الحقيقية في المحاولة في خلق مسار جديد لتفاعل القوى الثورية و خاصة الشباب في مسار التطور الاجتماعي….
لكن بعيدا عن التأييد او الرفض لهذا القانون فان من المنطقي ان يتغير مفهوم التظاهر و الاعتراضات الجماهيرية و الكلام هنا ليس عن مصر وحدها… بل عن كل المجتمعات التي شهدت تغييرات سياسية أفرحت البعض و أغضبت اخرين و تركت الأغلبية دون أدنى حلول لمشاكلها التاريخية المزمنة و التي أعادت انتاج آلياتها بعد الثورات و بشكل عنيف…
تلازم العنف مع تظاهرات الثورة و خاصة تظاهرات ما بعد التغيير اصبح ظاهرة مقلقة بشدة ليس للأنظمة القائمة كما يعتقد الثائرون بل للمجتمع كله لان التلازم بين العنف و التظاهر يهدد الحياة اليومية للأفراد بغض النظر عن وظائفهم و أدوارهم السياسية او الاقتصادية و الاجتماعية او غيرها فحال طلبة المدارس و حال الموظفين في الدوائر و المؤسسات لا تختلف عن حال اللاعبين الرئيسيين … كما انها لا تختلف عن حال الفقراء و المهمشين و الجوعى… الكل يعاني حتى المتظاهرون أنفسهم… بل حتى الذين يقومون و يقودون اعمل العنف فهم يفقدون قيمهم و كرامتهم الانسانية و يتحولون الى أشلاء أخلاقية قبل ان يتحول بعضهم الى أشلاء جسدية…
أسوأ نماذج هذا التطور الخطير هو في العراق الذي ما زال يمارس أبناؤه و الدخلاء اليه من الأقطار الاخرى هذه الهواية الغريبة فيه منذ عقد من الزمان و لا حلول توجد و لا رؤى تطرح و كاًن الجميع قد استسلم لثقافة الانتحار الذاتي بهذه الطريقة او تلك…. هذه الثقافة التي امتدت الى سوريا منذ ما يقرب من ثلاث سنوات… تبدو الأجواء أمامها مفتوحة و ملائمة للتمدد في ليبيا و تونس و اليمن و هناك مؤشرات للتمدد الى بلدان اخرى و منها السودان و غيره….و طبعا مصر لم تكن استثناء فالعنف الملازم للثورة المستمرة اصبح حياة شبه يومية من مناطق البلد و النتيجة الآنية التي يراها هي زيادة متسارعة في آلية تعطيل الحياة اليومية و تكبيل المساعي التي تحاول ان تجد طريقا وسط الغبار و الدماء … حيث تبرز الان الحاجة الى منطق جديد…
منطق يحاول ان يفهم حقيقة غفل الكثيرون عنها و هي ان الشباب كان من المفروض… و ما يزال… ان يكون لهم مشروع اخر مختلف غير المنهج التقليدي و الذي يتراوح بين التأييد للنظام … اي نظام… او رفضه… مشروع يبنى على توليفة مختلفة لمبادئ تحقيق الأحلام و إدارة الصراع …. توليفة تعتمد على المشاركة الواقعية و شعار واقعي عملي يمنع الاصطدام و يمنح الأمل للجميع شعار…الشعب يريد بناء الوطن..
هذا شعار جميل لكننا لم نعهده بعد و نتمنى ان يعم في كل مكان…. لان واقع الحال هو ان الثورات العربية ما تزال تمارس هواياتها في الهدم… و لم يصل العقل و الوجدان عند الشباب مرحلة الرشد … الثورة ما تزال لعبة طفولية يلعب بها الجميع و متنفسا من كبت تاريخي مستديم…هدم كل شيء باسم الثورة يعبر عن مخارج سهلة للضغوط النفسية من منظومة اجتماعية سياسية اقتصادية و ثقافية متهرئة لم تعبر عن مطامح و حاجات الشباب و قدراتهم في التواصل … الحرية المفقودة و الكبت الجنسي و الفقر و البطالة و قلة الموارد و ضعف مشاريع التنمية… أن وجدت… و العيب و الحرام و معوقات التفكير… و …و… أشياء كثيرة تضع الشباب في دائرة تضيق يوما بعد يوم… تزيد البؤس و الحرمان و تراكم الشعور بالظلم و المذلة و الهوان… و توسع دائرة الضياع و اللا أدرية و الاحباط و عدم المسؤولية…. بكلام آخر… أنها دوامة تندثر فيها الرؤى و تضيق الأفق و تموت فيها الأحلام و الآمال …
وسط هذه الدوامة… و نتيجة تلاقي و تقاطع عوامل كثيرة و مصالح مختلفة … و ربما ايد خفية….فتحت فجاًة ثغرة في الجدار … فكانت الثورة التي أسقطت الكثير من القيم و المناهج المكبلة للتفكير و العمل… و اخرج الناس و خاصة الشباب رؤسهم يشبهون صغار الطيور و هي تصارع للخروج من عتمة البيضة التي حملت حياتها… و في صراعها هذا فان الشيء الوحيد الذي يقوم هؤلاء الصغار هو هدم جدار البيضة …. لا تفكير في بناء عش الآن .. بل الهدف هو الخروج حتى دون أدنى معرفة عن الخروج الى اين…
شباب اليوم … و كلهم ثائرون بشكل ما… هناك من يثور في الشوارع و الميادين… و هناك من يثور داخل البيوت… لكن القاسم المشترك هو أن الجميع ثائر في داخله… و بما أن المسارات مختلفة و الأهداف ضيقة و أحادية فان التصادم هو الأقرب الى الوقوع… هكذا هي الحال…
هل يستطيع القانون الجديد في مصر … او قوانين مماثلة في مجتمعات عربية اخرى… في خلق مسار جديد مختلف… نتمنى ذلك لكن الامر مشكوك به….. لان التغييرات العظمى في المجتمعات لا تكون عادة نتاجا للقوانين.. بل لابد من إيجاد مشروع جديد… و للأسف فان الرؤى غير متوفرة… على الأقل ليس على مستوى ثقافي عام … و لذلك فان القوانين قد تحدث آثارا عكسية … رغم النيات الصالحة… و المطلوب هنا ان الحكومات الجديدة تتفاعل بهذا الاتجاه مع القوى الاخرى لإنتاج مشروع اجتماعي جديد….و الحوار هو مفتاح واقعي جميل….. و الواقعية تبدأ بالابتعاد عن الصراع و العنف و قد تبدأ بشعار بسيط لكنه يعتبر ثورة حقيقة في مفهوم الواقعية… الشعب يريد بناء الوطن… نتمنى ان نرى الشباب في كل المدن العربية تخرج بهذا الشعار و تشارك في تحقيقه…. كل الحب للجميع…