كتب صديقى الأستاذ على الرز مقالاً بديعاً فى صحيفة الراى الكويتية تحت عنوان «زلة وزير أم رغبة نظام؟» وهو مقال يلخص المأساة التى يقع فيها كل خروج عن المرسوم سياسياً.
التهم جاهزة دائماً. أى تطاول بالنقد يحولك لمعارض، والمعارضة خيانة، والخيانة تبعية لإسرائيل أو للغرب أو لإيران أو لجميعها معاً، حتى التعرض لأى مسؤول صغر أو كبر يُفسَّر بالعمالة للخارج. ليس أمامك سوى أن تسكت، فرأيك سيكلفك الكثير.
وقصة التخوين قديمة. فكرة ابتدعتها الحكومات العربية. رغم أن قيامنا بتفصيل العملاء الحقيقيين سيجعل من موجه التهمة أكبر عميل للمستعمر ولـ«الموساد» والـ«سى آى إيه» ولأى نظام استخباراتى.
الحكومات ترتبط بالخارج ارتباطاً وثيقاً لضمان عروشها، لكنها تنظر لأى ارتباط بين ناشط من الداخل وجمعية حقوقية خارجية أو أى مؤتمر دولى يحكى عن قصة الإنسان وحقوقه على أنه عمالة وخيانة.
وكان الأستاذ على الرز يتحسر، عبر مقاله، على حال مصر التى ثارت على الديكتاتورية ليأتى نظام يتهم كل معارض بالعمالة باسم الدين هذه المرة. كأن شيئاً لم يتغير ولم يكن.
إرث التخوين يمتد بلا نهاية كأنه دخل فى جينات الأجيال العربية، بدليل أنه تحول، فى بعض المناطق، من تهمة توجهها الحكومة إلى تهمة يتراشقها أفراد الشعب بين بعضهم. صار الشعب يمارس مهمة التخوين ضد أفراده الذين يفكرون بشكل مختلف. الشعب حارس للنظام ضد نفسه، ظناً منه أنه يحمى الوطن فى عملية خلط فادح بين مفهوم النظام ومفهوم الوطن.
والحكومة تبلغ ذروة سعادتها وهى ترى فئات شعبية تتقاتل فيما بينها لأجل استقرار النظام، تشاهد بأم عينها ألفاظ التخوين يتبادلها الأفراد وتقف صامتة، لا يصدر عنها بيان واحد يحكى عن وحدة الشعب وضرورة تكتله منتشية لمشهد أذرعها الداخلية ومتبعة سياسة مزرية أثبتت تهالكها، عنوانها(فرق تسد).
من الخائن فى هذه الحالة: المعارضة؟ أم النظام الذى أراد أن يقمع المعارضة عبر التخوين؟ أم فئات الجهل التى صدقت النظام بلا وعى؟
اليوم لن تتسيد إن فرقت، فثورة الربيع قلبت السحر على الساحر، ومشهد الوحدة الشعبية فى البلدان العربية أثناء قيام الثورات يثبت أن الشعب مع نفسه أولاً وأخيراً، وكل محاولات الفرقة باءت بالفشل وقتها رغم عودتها إلى الواجهة اليوم بفعل ديكتاتوريات جديدة نتمنى ألا يطول عهدها.
والمفارقة السخيفة هى أن البلدان التى تحرّم الثورات باسم الدين، وتمنع حكوماتها أى تظاهرة باسم الدين وطاعة الكبير، تدعم الثائرين فى مناطق عربية أخرى تحت شعار حرية الإنسان وحقوقه، وهذه البلدان نفسها تتهم مواطنيها المعارضين أو الناقدين بالعمالة والخيانة فى الوقت الذى تساند فيه معارضى بلدان عربية أخرى (حكوماتهم تتهمهم بدورها بالعمالة والخيانة). ولا تجد البلدان الأولى بداً من التعاون الحثيث مع الغرب لخدمة ثورات فى مناطق عربية مختلفة فى الوقت الذى ترشق فيه مواطنيها بوابل العمالة لأمريكا وإسرائيل إذا حدث وصرح أحدهم تصريحاً خارج نطاق النسق السياسى السائد.
ليس أمامنا سوى أن نعيد النظر فى مصطلح (السمعة) الذى جرى تحريف معناه، فلم تعد السمعة المتدنية خاصة بمرتكبى الجرائم والمتسببين فى الأذى، بل تلويث السمعة هو نصيب من تدخل فيما لا يعنيه، فانتقد السياسى أو انتقد التقاليد.
فارضخ، وأطع الجهل، أو استمر فى الخروج عن المنصوص سياسياً غير عابئ بتخوين أو اتهام. كله فى النهاية من صنيعك واختيارك. المهم أننا جميعاً نعلم أن الخيانة اليوم هى ميزة الشرفاء.