هذا النهار سيء من أوله، أستاذ الفلسفة دخل متجهماً على غير عادته، وضع دوسيته بضربه قوية على المنضدة، وهو ينفخ أنفاسه من بين أسنانه ويبدو أن جسده دخل حقاً، لكن الطلاب لم يشعروا بوجوده الذهني الساطع الذي اعتادوه منه، منذ بدأوا معه الفصل الدراسي الأول.
ليس صعباً الإحساس بنفسية هذا المحاضر، فهو يكاد يكون لوحة تُقرأ نصوصها بسهولة، وفي صميم اللوحة عقله الذي يجرهم دوماً إلى عوالم جديدة، تبدو للوهلة الأولى غير قابلة للفهم، وعصية عن الاستيعاب.. ولكنها شديدة الإثارة بالوقت نفسه.ربما بسبب ما تثيره من تساؤلات وتفكير.
طال صمت المحاضر، قبل أن يتمالك نفسه ويقول بصوت هادئ: “تعالوا نواصل”. توقع الطلاب أن يفصح قليلاً عما يعتمل في نفسه، كما عودهم دوما، لدرجة باتوا يشعرون أنه زميلهم في الدراسة وليس أستاذهم فقط. اليوم فهموا جملته التي كثيرا ما رددها: “العلاقة بيننا يجب أن تكون علاقة بين مفكرين، وليس بين طلاب ومحاضر”، وكان يضيف وهو يتأمل انعكاس كلماته على وجوههم:” رغم أن الكلمة الفصل هي كلمتي، مؤقتا وحتى بلوغكم الفكري الكامل، مستقبلا سأكون سعيدا حين تواجهوني رأيا برأي ، هذا سيشعرني بسعادة مطلقة”.
عاد يكرر دون أن يبدو انه يقصد ما يقول: “نواصل”… ثم صمت.
ضم قبضته بقوة، كأنه يجمع نفسه، وقال وضحكة كبيرة تكسر التوتر الذي خلفه من
لحظة دخوله:
– أسمعوا هذه الحكاية.. نشرت مقالاً… قبل نشره قرأناه سوية وناقشتم طروحاتي في المقال وعدلت بعض أفكاره بناء على نقاشكم. اليوم فاجأني أستاذ اللغة العربية… لا تذكروا أسماء من فضلكم، المضحك ان كل ما لفت انتباهه أني أخطأت في تجليس جلالة الهمزة في مكانها الصحيح، وأنزل على رأسي أطناناً من الانتقادات التي لم أفهم منها إلا أنه ضليع في تجليس جلالة الهمزة بمكانها الصحيح. قلت له:” يا هذا، لغتي في كتابة النصوص أفضل من لغتك، لغتي واضحة، تُقرأ بحماس ولغتك لا تقرأ لصعوبة ألفاظها ووعورتها وبعدها عن المناخ الثقافي، فهل تظن أن جلوس الهمزة على كرسي بدل أن تظل فالتة ، سيغير تاريخ الفلسفة ، أو ينسف كرامة اللغة العربية وكرامة المواطن العربي؟!”.
وقلت له:” حقاً أنت ضليع في نحو عمره مئات السنين، وصار يحتاج إلى انتفاضة ثورية، الى ربيع لغوي يندمج بالربيع السياسي العربي.. انتفاضة تجعل لغتنا وعقولنا ومجتمعاتنا وانظمتنا العربية أقرب للحياة ولواقع التطور. أنا حقاً لست لغوياً ولا أريد أن أكون ضليعا بنحو لغتي أكثر مما أعرف، هذا لا يلزمني للتفكير ومعرفة ما يلزم نهضتنا، ما هو ضروري لتحرير عقولنا من رواسب التخلف وكيف ننجز تنويرنا الاجتماعي والثقافي.قلت له: “أعترف انك أفضل مني في التعامل مع الهمزات، وأنا أفضل في التعامل مع الأفكار ومع الواقع، انت أفضل مني في عبادة الماضي المتحجر وانا افضل منك في فهم ضرورات التنوير وتحرير العقل من الخبل، فلماذا لا نقر بيننا اتفاقا بأن لا نشهر ببعضنا ، أنت لا تشهر بي بسبب الهمزة، وأنا لا أشهر بك بسبب قصورك الفكري؟!..”
فغضب وكأنه زعيم دولة عربية وليس مجرد خبير في تجليس الهمزة معتبرا كلامي تجريحا ومشاركة في المؤامرة الاستعمارية والصهيونية على العرب.
قلت له:
– أنت مناسب لعضوية البرلمانات العربية.
اتهمني أني بذلك أشوه عقول الطلاب بلغة غير سليمة، وأزرع بذور الفتنة والطائفية، وأضعف مناعتهم القومية، واجعلهم فريسة للمؤمرات… ولا بد من عقابي بتهمة تشجيع التراخي القومي. قلت له انه الآن أصبح انسب للتوزير في حكومة عربية. قلت له أن طلابي عقولهم تتطور مع الهمزة أو بدونها، وعقول طلابك تتلبك حول قضايا لن تفيدهم في حياتهم أو حتى في عملهم بالتعليم. ففقد أعصابه تماما وأسمعني كلمات لا تليق بزملاء في نفس المعهد، بالطبع لم أبق مديوناً، قلت له:
– يا أستاذ الضاد، وعميل سيبويه، وعدو الاستعمار وعميل نظام القهر الاجتماعي واللغوي، أنت تقول لي أنه مسموح لي أن أخطئ بكرامتي، بوطنيتي، بعقلي، بثقافتي، بضميري، وأن أخدم حتى عدوي ومضطهدي، وان اكون شبيحا ضد ابناء شعبي، هذا لا تحتج عليه. أما أن أخطئ بتقعيد جلالة الهمزة أو بالنحو ، فتقيم علي الدنيا ولا تقعدها ؟!
صمت. أخذ نفسا طويلا. تأملنا لبرهة قصيرة، ثم أضاف:
– هذه حالة يجب أن تنتبهوا لها وان تمنعوا تحويلكم إلى روبوتات لا تفكر؟ جهاز حافظ بلا وعي؟ نحن نعيش في عصر العقل، في عصر التطور، في عصر الإقلاع نحو الفضاء، وبعض الناس غارقون في الهمزة أو النصب والرفع والشبح. إياكم أن تستبدلوا فكركم في جدال لغوي عقيم. للغة أهمية عظيمة في تيسير الفهم ونقل المعرفة، لذا عليكم إثراء عالمكم اللغوي، وجعل جملكم مفهومة وسهلة ، وليس خطابا رئاسيا لا شيء فيه قابل للتحقيق .
وبعد ان تجولت عيناه على وجوه الطلاب أضاف:
-أعزائي أريد أن تعلموا شيئاً لا يقل أهمية عن نظريات الفلسفة، وهو جعل اللغة أداة ميسرة التعبير، وطز في النصب والرفع وجلالة الهمزة وحرمة الأنظمة التي تظن نفسها دائمة أبد الدهر مثل نحو سيبوية.
وأنفجر الصف ضاحكاُ. وفجأة تغير شكله وسطع وجوده وقال:
– الآن نعود إلى العقل!!
– العقل.. العقل .. عاش العقل .
صدر صوت قوي، ولم يكن صعبا معرفة صاحبه.
– هل لديك إضافة يا زاهر؟
– حول العقل وقلة العقل لي ما أضيف.. نادرة تشبه قصتك مع الهمزة وشبيحها الواقف بالمرصاد للمؤمرات الاستعمارية.
– أحذرك.. إذا لم تكن حكايتك حسب توقعاتنا سأخصم من معدلك 10 علامات كاملة؟
– أنا أقبل التحدي.. على شرط ان تضيف لي 10 علامات اذا كانت قصتي مناسبة ؟
– كلنا آذان ..
– التقى نازي ويهودي في بار، والقصد هنا الإشارة الى نقيضين. كان اليهودي جالسا بعيدا عن زبائن البار، في زاوية منعزلة، يحتسي الويسكي ويقرأ كتابا ولا يلتفت لما يجري بين الزبائن في البار،.عبثا حاول النازي أن يجر اليهودي إلى حوار ، وان يخرجه من تركيزه بالقراءة واحتساء الويسكي بمتعة ظاهرة. لكن اليهودي رسم ابتسامة على شفتيه وحافظ على صمته وهدوء أعصابه وكأن النازي لا يواصل استفزازه له.
كان النازي يزداد غضبا لأنه لم ينجح بجعل اليهودي يسقط ابتسامته ويترك كتابه، أو يتفوه بكلمة ضيق ليكيل له الصاع صاعين. وفكر النازي كيف يستفز اليهودي؟
ووجدها!!
قال النازي للبارمان بصوت حاد يسمعه جميع زبائن البار وخاصة اليهودي:
– وزع على جميع الموجودين كؤوس ويسكي على حسابي ولا تقدم كأسا لذاك الشخص.
وأشار إلى اليهودي، لكن اليهودي ظل يبتسم وغارقا في كتابه وكأسه الذي يملأه البارمان كلما فرغ وحتى بدون ان يطلب اليهودي ذلك.
بعد أن شكره جميع الزبائن على كرمه وعلى نخوته وتضييفه لهم، التفت النازي للبارمان مرة أخرى وقال بنفس الصوت الصاخب، وزع من جديد على حسابي كؤوس ويسكي للجميع ما عدا لذلك اليهودي الذي يبتسم بدون سبب.
وأشار إلى اليهودي، ولكن اليهودي ظل يبتسم.. بل تزداد ابتسامته وضوحا وامتدادا. هذا الأمر لم يعجب النازي. اقترب من البارمان وسأله:
– قل لي من ذاك اليهودي الذي يواصل الابتسام رغم إني أهنته ولم ادعوه لشرب الويسكي على حسابي؟
– أوه عزيزي انه صاحب هذا البار!!
nabiloudeh@gmail.com