في الأيام الأخيرة وصلت معنويات زوجتي إلى الحضيض مع ارتفاع حظوظ ميشال عون بانتخابه رئيساً للجمهورية. عادت إلى نغمة الهجرة، و”القرف” من العيش في هذا البلد. إحباطها من مواقف سعد الحريري “المخزية” وبقية التحولات والانقلابات “الغامضة”، واشمئزازها من فكرة أن تجد نفسها في “المعارضة” مع الذين تحتقرهم بالذات، وامتعاضها اليومي من طائفية اللبنانيين وعنصريتهم.. جعلها هكذا، بالغة التشاؤم والكآبة.
كان من واجبي أن أخرجها من المنزل كما من مناخات اليأس التي تحاصرها، ذاهباً بها إلى شارع بدارو، حيث الحانات الكثيرة والبشر الساهرين بخفة ولباقة وبهجة. كان من واجبي أن أنقذها من شعورها الحاد بالهزيمة السياسية، بقليل من المسرات الحسية أو بكثير من الحقيقة الاجتماعية التي تسخى بيروت بتقديمها إلينا كل يوم. أصلاً، هذا ما كنا نفعله لـ”نقاوم” أشد اللحظات العصيبة طوال العقود الماضية: حانات الحمرا، ومقاهيها، في زمن ميليشيات الثمانينات. ليل شارع “مونو” في التسعينات ضد أشباح النظام الأمني السوري – اللبناني. ومنذ عشر سنوات، مع الاغتيالات والتشبيح والتفجير والقمصان السود والثورات وأصبع حسن نصرالله، نقابل نهارات النفايات والقذارة السياسية، بليالي الموسيقى والكحول والقراءة والفن والأناقة والصحبة الصاخبة واللقاءات العفوية للخارجين على طوائفهم وأحزابهم وأهلهم. نهاراتهم الكريهة وفسادهم وسفالاتهم، وليلنا السخي وداً وشفافية وحرية شخصية واستقامة سياسية وعناداً ثقافياً. ليلنا المضيء الذي يصنع حياة للمدينة، ونهارهم الكالح الذي يوزع الموت والانحلال. فكم نحن أقوياء.
هل تعرفين كم عرض مسرحي، طليعي أو جاد أو ترفيهي، يُقدم الآن في بيروت؟ يلزمنا شهر بكامل أيامه لنشاهدها كلها. هذا لا يحدث إلا في مدن كبرى مثل شنغهاي أو لندن أو نيويورك. هل تعرفين كم معرض تشكيلي الآن في المدينة؟ فنانون لبنانيون وسوريون وعراقيون وأجانب في عشرات الغاليريات التي لا تتوقف عن معرض حتى تفتتح آخر جديداً. لنتذكر أيضاً عدد الكتب التي تُطبع في بيروت كل يوم ولا تقدر على ذلك عواصم أخرى. لنلتفت إلى العمل الذي لا نراه في مراكز الأبحاث ودور النشر وإنتاجها المؤثر على العالم العربي برمته. وأعمال الترجمات والدراسات، كما أعمال التوثيق. لنأخذ أيضاً ما ينجزه الجيل الجديد من أفلام وشرائط فيديو وفنون تعبيرية. لنتذكر كذلك، العمل الدؤوب اليومي للمهندسين والمعماريين وهم يشتغلون على شروط معمار المدينة وتحسين الحياة فيها. انتبهي إلى تلك الحياة المفعمة بالطاقة في الجامعات والمعاهد. ولنشهد على كل تلك الجهود، منذ عقد على الأقل، للناشطين في المجال العام: حقوقيون، بيئيون، جندريون..إلخ، ومَن معهم مِن شباب سياسي ضد الفساد وضد مثالب النظام. لنشهد أيضاً على الجمعيات والمؤسسات المدنية العنيدة في مطالبها وأجنداتها ونشاطاتها الدائمة.
أحدّث زوجتي بكل هذا، جالسين على البار برفقة ابنة سمير قصير، فتخطر في بالي فكرة: أليس من الرائع أن تتوضح الأمور مجدداً مثلما حدث في العام 2000، حين كانت السلطة بيد إميل لحود وغازي كنعان وجميل السيد؟ أليس هذا ما يتيح لنا وضوحاً في تعريف أنفسنا “معارضة”، وهذه المرة ضد سلطة جبران باسيل ونهاد المشنوق ومحمد رعد سوياً؟
أحدّثها عن “الميزة” اللبنانية: على الأقل، حتى “حزب الله” يتجنب الانزلاق إلى حرب أهلية. هذا مكسب هائل. سعد الحريري مستعد أن يتحطم كي لا يصير السنّة من أتباع “داعش”. نبيه بري، ومهما كان رأينا فيه، لا يحبذ أن يصير أنصاره كما “الحشد الشعبي” الشيعي العراقي. هذا ربما يتيح لنا صنع الفارق، في هذه الجمهورية الضعيفة. تعرفين كم هم يحسدوننا، يشعرون بالدونية أمامنا. ثم لدينا امتياز آخر، إذ أن المتنازعين على السلطة والهيمنة، زعماء وأحزاباً وطوائف، جميعهم عاجزون عن الحسم، عاجزون عن التفرد أو الطغيان. في مصر كان الأمر سهلاً على ضابط واحد. في سوريا لم يبق سوى ذاك الرجل الواحد. هل تتخيلين نفسك في إيران، كامرأة أو كفنانة أو كفرد حر، ينتخب رئيساً ويحكمه قائد آخر معصوم؟ هل تتخيلين نفسك في تركيا حيث سيلازمك الشعور بأن الانتخابات الديموقراطية سيربحها المرشح نفسه إلى الأبد؟
وامتيازنا الأهم، أن لا براميل متفجرة فوق رؤوسنا، ولن تكون. صحيح أن رائحة النفايات وأنفاس الكراهيات وسموم الطائفية وقيح الفساد، يكاد يميتنا بسرطان القهر، لكن مناعتنا الخبيرة بسنوات الحرب وما بعدها، تمنحنا الصحة والعافية بعد كل حمى.
إلى أين تريدين الهرب؟ هل تتخيلين نفسك كإمرأة نيويوركية تواجه تهديداً جدياً بأن يصير دونالد ترامب رئيساً للجمهورية؟ هل تعرفين أي مرارة تعيشها إمرأة باريسية متوقدة فناً ووعياً مع احتمال عودة نيكولا ساركوزي رئيساً لفرنسا؟ هل تدركين أي أسى تعيشه سيدة لندنية مثقفة وعصرية منذ انتصار “البركسيت” انفصالاً عن الحلم الأوروبي؟ العالم ليس في أفضل أحواله، لكننا هنا في بيروت أفضل من أن نكون مواطنين في دولة رئيسها فلاديمير بوتين أو حتى رودريغو دوتيرتي رئيس الفليبين الموتور. وبالطبع لا نتخيل أنفسنا مواطنين في كوريا الشمالية أو فنزويلا.
جدياً، منذ انتهاء الحرب ما من إنجاز حقيقي في هذه الجمهورية سوى نمط العيش الذي ابتدعناه في ليل بيروت. هذه الصورة التي تجمع حيوية مجتمعنا في الاعتراض، وفي ابتكار حياة ليبرالية لا يمكن حبسها، وفي صنع مناعة ثقافية – سياسية تتيح لنا أن نبقى هامشاً عريضاً. في الجوار العراقي ثمة “داعش”، يقابله برلمان الداعشية الشيعية، يحرّم الكحول، وثمة في الجوار السوري ديكتاتور الوحشية ولا سياسيين على الإطلاق. بلد بأكمله لم ينتج رجالات سياسة رغم الثورة ورغم الحرب؟! في الجوار المصري ينتشر الخواء، في الجوار الخليجي حيث السلطة للصمت.
أنت تعرفين أننا لسنا “لبنانيين”، نحن فقط بيروتيون (لا بيارتة)، كما يليق بكائنات ما بعد الوطنيات والقوميات. وأننا هنا في الحانات نرسم عالماً عربياً أفضل. لا أنكر جملتي المفضلة: “أول مئة سنة صعبة ثم تتحسن الأحوال”، لكننا مثل رجال الشرطة، لن نجد عملاً إن اختفى المجرمون.