بدايةً، لا بدّ من الإقرار بأن بشار الأسد واستخباراته نجحا، بعد الثورة، في الاحتفاظ برؤوس جسور داخل مسيحيي سورية، واستخدموها، بمرور الوقت، لاختراقهم والتلاعب بقطاعات كبيرة منهم. وتمثّلت هذه الجسور في فئتين: من جهة رجال دين وضعوا دورهم الكنسي في خدمة النظام وأجهزته الأمنية، شأنهم في ذلك شأن رجال دين مسلمين، دأبت الاستخبارات على إعطائهم خطب الجمعة التي يلقونها. ومن جهة أخرى، شبيحة يضمون خليطاً من الأوباش واللصوص والمتعصبين طائفياً والقَتَلة والسُّذَّج، تموّلهم وتسلّحهم وتدرّبهم، وتشرف على أنشطتهم التحريضية والمسلحة استخباراتٌ لديها خبرة واسعة في تنفيذ مهمّات إجرامية الطابع، سمّاها بهجت سليمان، رئيس فرع الأمن الداخلي الأسبق في دمشق، في رد على حراك المجتمع المدني: “احتواء المجتمع”.
يضمر هذا الواقع مخاطر قاتلة على وحدة مجتمع سورية وشعبها، من المهمّ التوقّف عنده بأناة. فالمسيحيون كانوا، عند بداية الثورة، ميّالين إليها، معادين في أغلبيتهم لنظام الأسد. وكان للثورة حضوراً لديهم، يتخطى أي حضور رسمي، يعود إلى انخراط عدد كبير من مثقفيهم وفنانيهم وطلبتهم الجامعيين في التظاهرات، والتي كانت تخرج من المساجد، بمشاركة إخوتهم المسلمين، وقد سقط شهداء معروفون منهم، وجاء بعضهم من الخارج، لدعم الثورة والمشاركة فيها. لذا، كان يمكن، بشيء من الانفتاح والتواصل الإيجابي، كسب قطاعاتهم الشعبية الكبيرة، والتي لم يكن لها مصلحة في معاداة الحرية، وفي التضحية من أجل نظام أكل حقوقها، وهمّشها طوال فترة حكمه، وربط رجال دين ينتمون إليها بخططه المناوئة للأغلبية المسلمة، والتي لم تشب علاقاتها مع المسيحيين شائبة، ولولا تسامحها وتفهّمها، لما بقيت المسيحية شرقية وعربية، وحافظت على ما لها من مكانة ودور. والآن، من الضروري التوقّف عند ظاهرة خطيرة، هي أن أغلبية مَن كانوا ضد النظام صاروا اليوم معه، على الرغم ممّا ارتكبه من جرائم ضد المجتمع، بل وضد عشرات الآلاف منهم: اعتقلوا أو استشهدوا أو لوحقوا أو فرّوا إلى خارج الوطن، أو تواروا عن الأنظار داخله. لكن الثورة، والتي كان معظمهم مؤيداً مراميها، وانخرط بحماسة في صفوفها، وقدم التضحيات من أجل انتصارها، خسرتهم من دون أن تأبه جدياً لما حدث، أو تبذل أي جهد لمنعه.
لماذا انحازت قطاعات كبيرة من مسيحيي سورية إلى نظامٍ معادٍ لها، يضعها أمام مخاطر جدية، انتصر أم هُزم؟ ثمّة أجوبة متنوّعة على هذا السؤال. بما أنني أبحث عن نقطة تصلح لتفسير ما وقع، سأكتفي بالقول إن غياب عمل وطني ديموقراطي/ علماني، يتجاوز الانتماءات المذهبية والطائفية، حال بين المعارضة ورؤية مشكلات سورية على حقيقتها، وأدى إلى تجاهل قضايا المجتمع، واعتبارها قليلة الأهمية، بالمقارنة مع مسألة السلطة، بصفتها مسألة السياسة المركزية. في المقابل، رأى النظام موقع هذه القضايا من السياسة، وعمل لوضعها في خدمة معركته ضد الثورة، والتي اعتبرها مصدر الخطر الوحيد عليه، ووضع الخطط لاحتوائها، وإفشالها، من خلال اختراقه وشقّه والتلاعب بمكوّناته. أعتقد أن هذا يفسّر نجاحه في كسب قطاعاتٍ مسيحيةٍ كانت ضده، بينما خسرتها الثورة، على الرغم من أنها كانت معها؟
هل نستطيع أن نؤسّس، أخيراً، هيئات عمل وطني، تضم سوريين أنداداً، يتساوون في المواطَنة، بعيداً عن انتماءاتهم المذهبية والطائفية؟ إذا كنّا نستطيع، فإن وقت العمل الصحيح لم يفت بعد. وإذا كنّا لا نستطيع، خسرنا كل شيء، وبقيت أعناقنا تحت سكاكين النظام، إلى زمن بعيد!