جيروم توبيانا: الشرق الاوسط
من الفجر حتى الغسق، قطعوا الطريق بين المناطق الخاضعة لسيطرة النظام وتلك التي يسيطر عليها الثوار – مجموعات صغيرة من الرجال يرتدون الجلابيب وسيدات يرتدين أزياء زاهية، وأطفال في سلال على ظهور أمهاتهم. حملوا جراكن المياه التي أصبحت خاوية الآن، وعددا من الماعز في سن صغيرة جدا لا تستطيع معها السير وأواني وأسلحة – من سيوف تعود إلى القرن الـ19 إلى قاذفات قنابل يدوية، أحيانا كليهما على كتف واحد. ووسط المدنيين، سار جنود من الثوار كانوا موجودين هناك لحمايتهم من ميليشيات النظام. كان الجميع قد سار لمدة أربعة أيام نظرا لأن قراهم في تلال الإنجسنا محاطة بقوات النظام. ومن حين لآخر، تأتي سيارة للثوار لالتقاط الشاردين ونقلهم إلى نقطة الاستراحة التالية. غير أنه جرى ترك الأكثر ضعفا والأكبر سنا والمكفوفين، وهؤلاء المصابين بمرض عضال لا يمكن أن يتعافوا منه.
واصل الناجون سيرهم متجهين نحو الفوج، وهي نقطة عبور على الحدود بين وطنهم الذي مزقته الحرب، والنيل الأزرق في السودان، ودولة جنوب السودان الجديدة.
ونظرا لأنه في منتصف عام 2011، عادت الحرب من جديد في النيل الأزرق بالسودان وولاية جنوب كردوفان، سار قرابة 200 ألف مدني سوداني على هذه الطريق عبر الحدود الجديدة الممتدة لمسافة ألفي كيلومتر، حتى مخيمات اللاجئين في جنوب السودان. بالنسبة لكثيرين منهم، تبدو فكرة عبورهم حدا غريبة. بحسب اتفاقية سلام جرى توقيعها عام 2005 بين السودان وثوارها الجنوبيين، ينبغي أن يستند الحد إلى خطوط حدودية إقليمية في عام 1956، عام استقلال السودان. يبدو الخط تقديريا. ومن خلال السفر على طوله، يلتقي الفرد في الأغلب أقليات تخشى من أن يجري تهميشها بدرجة تفوق أي وقت مضى في الأجزاء المتبقية من السودان، وبدوا يخشون من فقدان حقوق الرعي خاصتهم في جنوب السودان.
في كنيسة تشالي المهجورة، شرح لي قس أن قبيلته الأدوك، إحدى الأقليات المسيحية في السودان، تخشى من ألا تجد مكانا لها في السودان الذي تفرض النخبة الحاكمة فيه على نحو متزايد هوية عربية إسلامية. وحذر الرئيس السوداني، عمر البشير، من أنه، مع استقلال الجنوب، لن يكون «هناك وقت للحديث عن التعددية الثقافية والعرقية.. سيكون الإسلام الديانة الرسمية، وستكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية». أثار هذا قدرا هائلا من القلق ليس فقط بين المسيحيين القلائل، بل أيضا بين ملايين المسلمين غير العرب، الذين يعيش كثير منهم في المناطق التي مزقتها الحرب على طول الحدود.
لقد أصر وسطاء الاتحاد الأفريقي على أن يصبح الخط الجديد «حدا ناعما»، يمنح حقوقا للأفراد من الجانبين: حرية الحركة والتجارة والإقامة والزراعة والرعي، أو حتى حق التصويت والجنسية المزدوجة. وسوف يتطلب تحقيق هذا من كل من الخرطوم وجوبا ما هو أكثر من حالة التأرجح الحالية بين الحرب والسلام.
ويتمثل سبب رئيسي في الورطة المتعلقة بالأجزاء المتنازع عليها من المناطق الحدودية في أن الحكومات في كل من الخرطوم وجوبا ضعيفة جدا ويحدوها الخوف من تحويل الناس على الحدود إلى ثوار. ويتمثل موقع مهم في لعبتهم فيما يعرف باسم «الميل 14»، والذي كان محور مفاوضات محتدمة في عام 2012. إنها منطقة شبه خاوية يقطنها رعاة ماشية من قبيلة الدينكا ويمارس فيها البدو العرب من الشمال الرعي. عند النهر الذي يطلق عليه العرب اسم «بحر العرب»، وتسميه قبيلة الدينكا «كير»، سار التجار والبدو الشماليون جنوبا على جسر صلب، على الرغم من وجود ثلاث دبابات جنوبية تصوب مدافعها جهة الشمال. منذ نهاية عام 2010، نقلت جوبا القوات إلى المعبر الاستراتيجي. وعندما طلب العرب المحليون من الخرطوم الرد على ما اعتبروه غزوا لوطنهم، طلب منهم إرسال فرسانهم المسلحين: «هذا يعني بدء حرب»، حسبما أخبرني قائد عربي.
حفز تكرار الحوادث على الحدود منذ الاستقلال على إجراء محادثات جديدة بين الخرطوم وجوبا، اللتين وافقتا في سبتمبر (أيلول) 2012، على تجريد المناطق الحدودية من السلاح. وبعد أشهر من سحب أقدامه، بدأ الجيش الجنوبي في إخلاء الميل 14 في مارس (آذار) 2013.. ولكن ليعود بعد مرور أسبوعين فقط.
يدرك الجانبان أنه لن يجري نزع السلاح من المنطقة على الإطلاق: الثوار السودانيون في أرض الوطن بالمناطق الحدودية، وهم يزعمون أنهم يسيطرون على 40 في المائة من الخط غير المرئي.
بالنسبة للثوار الشماليين، عادة ما تكون مناقشة الحدود مسألة مؤلمة. يعارض السودانيون من جميع الأطراف انفصال الجنوب، وينظرون إليه بوصفه يمثل فشلا جماعيا في استيعاب الجنوبيين، وليسوا مستعدين لفقدان أي جزء آخر من أراضيهم. أخبرني الثوار العرب من قبيلة المسيرية بأن أبيي، وهي منطقة رئيسية متنازع عليها بين قبيلتهم والدينكا، وأيضا بين السودان وجنوب السودان، ينبغي أن تصبح «مكانا للتعايش ومثالا يحتذى بالنسبة لكل السودانيين». حقا، لماذا لا يمكن أن يكون فرد من قبيلة الدينكا مواطنا سودانيا، وفرد عربي مواطنا من جنوب السودان؟ كي تكون الحدود سلمية، تحتاج لأن تكون ناعمة، ليس فقط بالنسبة للجماعات المسلحة، ولكن أيضا للمدنيين المحليين.
بالعودة إلى النهر الأزرق الذي مزقت أطرافه الحرب، أخبرني عويسة ماضي زيما، قائلا: «نحن لسنا أفرادا متعلمين ولا نفهم الكثير من الأمور المتعلقة بالسياسة، ولكن الحكومة التي ستعاملنا بشكل جيد سنولي لها احترامنا، سواء أكانت في جنوب السودان أو شماله».
* محلل سوداني
بمجموعة الأزمات الدولية