الشرق الاوسط اللندنية : عثمان ميرغني
مواقف الحكومة السودانية فيما يتعلق بالعلاقة مع دولة الجنوب حائرة ومحيرة. فلم تمض ثلاثة أشهر على توقيع اتفاقية تنفيذ التعاون بين دولتي السودان، حتى عادت أجواء العداء ولغة التهديدات. بل إنه لم تمض ثلاثة أسابيع على كلام الرئيس عمر البشير عن أنه يسعى إلى إعادة الترابط بين الشمال والجنوب، وإعرابه عن ثقته بأنه سيأتي يوم يتوحد فيه شطرا السودان، حتى رأيناه يقوم باستدارة كاملة مهددا بإلغاء اتفاقيات التعاون وبوقف صادرات نفط الجنوب التي تمر عبر أنابيب النفط في الشمال، قائلا للجنوبيين «اشربوا نفطكم».
بالفعل قامت الحكومة السودانية في مطلع الأسبوع الجاري بإغلاق أنابيب النفط تنفيذا لتوجيهات مباشرة من الرئيس بعد خطاب أمام حشد شعبي، وأمام كاميرات التلفزيون شن فيه هجوما عنيفا على الجنوبيين واتهمهم بعض اليد التي مدت لهم، بعد أن أعطاهم السودان (وهو في الواقع يقصد نظام الجبهة الإسلامية) الاستقلال و«دولة كاملة الدسم» بكل الثروات والموارد والأرض. هذه اللغة توحي بأن نظام البشير يتعامل مع دولة الجنوب باعتبارها منحة أو هبة منه، ويتعامل مع السودان وكأنه ملكية خاصة للجبهة الإسلامية تقسمه كيفما تشاء، وتوزعه في شكل هبات وعطايا أو مشاريع لمن تريد في الداخل أو في الخارج. من هنا يتخوف الكثيرون على مصير البلد في ظل حكم «إسلاميين» جاءوا إلى الحكم بانقلاب عسكري غادر وفرضوا حكما استبداديا يحتفلون في نهاية الشهر الحالي بالذكرى الرابعة والعشرين له، بعد أن تمزق السودان، وانتشرت الحروب لتغطي مساحة شاسعة تمتد بعرضه من دارفور إلى النيل الأزرق مرورا بجنوب كردفان.
فالنظام بعد كل هذه السنوات فشل في تحقيق السلام حتى بعد أن ضحى بخمس أراضي البلد وأكثر من ثلاثة أرباع موارده النفطية، وهو يعود الآن إلى لغة الحرب ذاتها التي استهل بها عهده، داعيا الشباب مجددا إلى الانخراط في صفوف «الجهاد». فخطاب البشير قبل أيام يعيد إلى الأذهان خطاباته وخطابات أركان حكمه من «الجبهة الإسلامية» على مدى سنوات، وفي مراحل مختلفة من تقلبات نظامهم واضطراب سياساتهم. فهو يقول إن العالم عرف نظامه بأنه لا يمكن «ابتلاعه»، ويهدد بأن «كل يد تمتد إلى السودان سوف يتم قطعها، وكل من يطول لسانه على السودان سوف يتم قطعه، ومن يرفع عينه على السودان سنفقأها له». لغة الحرب والتهديد كانت هي السجل الدائم للنظام، والنتيجة خسائر مستمرة للبلد واستنزاف لطاقاته وموارده المحدودة، وتبديد لفرصه في الاستقرار والتنمية.
حرب الجنوب التي رفع فيها النظام راية الجهاد منذ سنواته الأولى، وأهلك فيها الكثير من الشباب المتحمسين وراء شعاراته، لم تؤد كما زعم النظام إلى حماية الوحدة وعدم التفريط في أي شبر من أراضي البلد، بل انتهت كما هو ماثل أمامنا إلى تقسيم السودان وانفصال الجنوب، بل ومشاركة البشير في احتفال الجنوبيين باستقلالهم. أما اتفاقية السلام التي وقعها النظام عام 2005 وزعم أنها ستحقق الاستقرار، فقد ثبت أنها أسوأ وأفشل اتفاقية، وأنها تنم إما عن جهل من وقعوها عن النظام، أو عن استهتار مرعب بالبلد وشعبه ومستقبله. فالجبهة الإسلامية من أجل الإنفراد بحكم الشمال، وتنفيذ مشروعها لإعلان جمهوريتها الإسلامية، قبلت بانسلاخ الجنوب بل شجعته وفرحت به، وفي غمرة اندفاعها وقعت على اتفاقية لم تحسم كل القضايا المهمة بما في ذلك ترسيم الحدود وتقاسم الثروات والموارد الطبيعية. النتيجة أن الاستقرار الموعود أضحى وهما وسرابا، فعادت الخلافات وأجواء التوتر بين الشمال والجنوب، وتجددت المناوشات على خطوط التماس حتى وقف الطرفان أكثر من مرة على شفا الحرب الشاملة. فوق ذلك اشتعلت حرب «اشربوا نفطكم» وفقا لتعبيرات البشير، فتوقفت صادرات النفط الجنوبية لأكثر من 16 شهرا، قبل أن تستأنف الشهر الماضي لتتوقف مجددا هذا الأسبوع.
المواجهة هذه المرة أخطر من سابقاتها، واضطراب سياسات النظام السوداني يعكس هذا الأمر. فالنظام يمر بأصعب امتحاناته بعد أن توحدت فصائل المعارضة المسلحة وصعدت عملياتها وهجماتها إلى حد جعل أهل الحكم يتخوفون من احتمال انتقال الحرب إلى قلب الخرطوم. في الوقت ذاته بلغت الضائقة الاقتصادية حدا جعل الناس يتظاهرون ضد الغلاء وانتشار الفساد وسياسات النظام، بينما بدأت الخلافات تدب في أوساط الحزب الحاكم وسط أحاديث عن مخططات انقلابية. تحالف أحزاب المعارضة الشمالية استشعر من جانبه وهن النظام فأعلن هذا الأسبوع بدء ما سماها خطة المائة يوم لإسقاط النظام.
مع كل هذه التطورات يبدو السودان وكأنه يقف مجددا على حافة انفجار كبير، ربما يجعله مرشحا لأن يكون الدولة التالية في مسلسل الربيع أو الخريف العربي.