لا أحب قراءة التاريخ لكن لا مفر. لا أحبه لأنه يذكرك بالحاضر وليس العكس. وعندما تقرأ كم تكرر العنف والرعب والظلم تشعر بأن العالم كله من حولك مسرح للعذاب. مسرح يتكرر بنفس الوحوش والجرائم والجناة. المجرم ينجو والضحايا تقع. تنقبض لأن لا شيء يتغير في هذا العالم: النعاج تبحث دائما عن زعيم يأخذها إلى المرج.
يقول النمساوي ستيفان زفايغ: «ليس لدى التاريخ وقت ليكون عادلا. إنه يحصي فقط، ببرودة المؤرخين، النجاحات وحدها، ولا يعترف إلا بالمنتصرين ويضع الخاسرين في الظل. لا يرى حرجا في أن يواري الجنود المجهولين في قبر النسيان، من دون شاهد يمتدح تضحياتهم».
في «عنف الديكتاتورية» (ترجمة فارس يواكيم، دار الفرات) يقول زفايغ إن الظلم البشري يحول معاني الكلمات، ولا يعود النصر يعني ما يفترض أن يعنيه ولا الهزيمة تعني ما تعيشه. ويصف الديكتاتور بأن له «وجها مثل جبل من الكلس، مثل أرض صخرية جرداء مهجورة موحشة، تبدو وكأن لا بشر تسكنها. وجه بيضاوي قاس ودميم وفظ وغير متجانس».
«لقد أبعد هذا المتعصب الأعمى حياته أبعد ما يكون عن روح المصالحة. إنه لا يعرف التسوية. لا يعرف إلا طريقا واحدا هو طريقه. الكل أو لا شيء. السلطة الكاملة أو لا شيء. لا يقبل حلا وسطا. لا يقدر أن يتفهم أو يتخيل وجود شخص آخر بوسعه أن يكون في مستواه، وأن يمتلك الحق ذاته. إنه وحده الذي يعلم، وعلى الآخرين أن يتعلموا منه. كان هذا المهووس بذاته يحنق ويرغي ويزبد إذا تجاسر أحدهم على إبداء رأي مضاد لرأيه».
هذه الشخصية ليست موجودة قط في السلطة وفي السياسة. إنها ظواهر مرضية موجودة في كل الحقول. في التجارة وفي الصحافة وحتى في الجمعيات الخيرية. ما أن يصل مريض السلطة إلى مركز أعلى حتى يضربه مرض التأله ويسكنه شيطان المطلقية. يصاب بمرض الإغلاق فيغلق كل باب من حوله. وإذ يصبح وحيدا لا يدرك أنه يخاطب – وتخاطبه – نفس مهووسة بتصورات أحادية، لا حقيقة لها إلا عنده.
ينصرف الديكتاتور إلى صناعة واحدة هي نفسه، ويضع على الجدار أمامه مرآة لا تتسع إلا لرؤية وجهه. وعندما يغادر أخيرا يكون قد ألحق من الضرر والإساءة والخراب ما ألحق، ومسكين الرجل الذي يأتي بعده كم ستكون مهمته شاقة: إعادة المنطق والتعقل والعدل إلى المؤسسة. وإعادة العمل بقواعد البشر من تواضع وتفهم وتقبل لأفكار الغير. ولا تكون الأضرار مادية فقط لأن الخراب النفسي أكثر عمقا. والأذى المادي ينسى بعد حين. ما لا ينسى أبدا هو اعتداء الديكتاتور على الكرامات البشرية وازدراء الكبار بسلوك الصغار.
نقلاً عن “الشرق الأوسط” الدولية