انشغل الوسط اللبناني لساعات بإيفاد الزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط مساعده النائب وائل أبو فاعور إلى السعودية، مستطلعًا موقف المملكة من الاستحقاق الرئاسي اللبناني. عاد أبو فاعور إلى بيروت، واختَصَرت نتائج زيارته عبارة رشيقة نُسبت إلى رئيس المجلس النيابي نبيه بري: ذهب مختارًا وعاد محتارًا!
لم يعتد اللبنانيون أن يحتاروا إلى هذا الحد بموقف السعودية من قضايا يعتبرونها مصيرية، وإن كان لا يزال يتردد في أذهان كبار المسؤولين تصريح الراحل الأمير سعود الفيصل مطلع العام 2011 بأن المغفور له الملك عبد الله بن عبد العزيز رفع «يده» عن الاتفاقات بين الرياض ودمشق لحل الأزمة اللبنانية، أو ما يعرف بمبادرة «سين – سين»!
يومها كان تصريح الفيصل إيذانًا بيأس السعودية من جهود الوساطة بين لبنان وسوريا. ثم كانت الثورة السورية بعد نحو شهرين ودخول العلاقات بين البلدين في حقبة جديدة، أعادت الدور السعودي، وإن بتردد ظل يحكمه السؤال عن جدوى الاستثمار المكلف والمتعب في لبنان!
اليوم يستشعر اللبنانيون أن رفع اليد يدخل فصلاً جديدًا عنوانه هذه المرة رفع اليد عن جهود ترميم العلاقات البينية للقوى السياسية، وليس تنظيم علاقات لبنان بمحيطه. كأنه يأس يضاف إلى يأس سابق.
لم تفاجئني عودة الوزير الاشتراكي «محتارًا» من زيارته السعودية. فإلى ما سبق ذكره، ثمة سعودية جديدة ما زال يرفض تصديقها أمهر الخبراء في السياسات السعودية.
ليس مفيدًا القفز فوق مفارقة تختصر هموم السعودية الجديدة وترتيب الأزمات على سلم أولوياتها. ففيما كان اللبنانيون يستطلعون «اتجاه الريح» السعودية حيال أزمة الرئاسة اللبنانية وموقفها من خيار المضي بالجنرال ميشال عون رئيسًا، كان مجلس الوزراء السعودي يطلع على أوامر ملكية بتخفيض رواتب ومزايا الوزراء وأعضاء مجلس الشورى، ويناقش قرارات طالت الموظفين في الدوائر الحكومية بشأن نظام الإجازات والمكافآت. وكان صانع القرار السعودي يتابع بدرجة عالية تصويت الكونغرس الأميركي في مواجهة الفيتو الرئاسي على مشروع قانون جاستا الذي يتيح لأقارب ضحايا هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، مقاضاة دول ينتمي إليها المهاجمون، وتحول المشروع إلى قانون نافذ!
إلى هذين الهمين، أي، نقل دولة الرفاه السعودية إلى اقتصاد ما بعد النفط والتأقلم مع علاقات أميركية سعودية «جديدة»، أضِف حرب اليمن التي ترعى فيها إيران ميليشيا مسلحة بصواريخ سكود على حدود المملكة، واللعب الإيراني بالملف المذهبي في قلب الخليج في البحرين والكويت والعراق وغيرهم!
عودة إلى لبنان وملفه الرئاسي!
أصاب التقييم السياسي والاستراتيجي السعودي أم أخطأ، فالرياض ترى أن لبنان دولة يحكمها أمين عام حزب الله حسن نصر الله، أيًا يكن الرئيس الذي سينتخبه اللبنانيون. وجل ما يمكن للبنانيين فعله، هو رفع الصوت قليلاً في مواجهة الهيمنة الإيرانية المسلحة، مع الرضوخ العملي لما يقرره حزب الله في القضايا الرئيسية. ففي السياسة الخارجية بات موقف لبنان محسوبًا في كل المحافل على محور إيران، مباشرةً أو مواربة. وفي السياسة الدفاعية، لبنان الذي يرأسه نصر الله جزء من العدوان على المملكة ومصالحها وأمنها من سوريا إلى اليمن وما بعدهما! حدث ولا حرج عن حرب الإعلام وسياسات تمويل الإرهاب بحق مصالح العرب عبر نظام مصرفي مخترق بشكل أو بآخر!
لبنان من وجهة نظر السعودية دولة معادية. لا قيمة كبيرة هنا للتفريق بين لبنان الدولة أو الوطن، وبين لبنان فئة محددة تهيمن على الدولة والوطن. أقله هذا ترف فكري وسياسي لا حظ للسعودية فيه، وهي المحاصرة بما أسلفت!
قرار المملكة منذ عاصفة الحزم، هو قرار بالمواجهة المباشرة مع إيران، بدل التلهي بمواجهات موضعية مع أدوات إيران هنا وهناك.
أي أنها قررت «قطع رأس الأفعى» بحسب العبارة التي استخدمها الملك عبد الله في حوار عام 2008 مع الجنرال ديفيد بتريوس قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط وسفير الولايات المتحدة في العراق في ذلك الوقت ريان كروكر وسرب مضمونه موقع ويكيليكس.
هي مواجهة شاملة في الميدان اليمني، وجزئية في سوريا، ومواجهة في المحافل الدولية والإسلامية والعربية. وأقول جزئيًا في سوريا لأن سوريا ليست دولة حدودية كاليمن. كما أن سوريا هي دولة ذات غالبية شعبية معادية للأسد. وغالبية الغالبية سنية وهذا واقع لن يستطيع محور إيران تغييره، ما يعني أن أي تسوية للمسألة السورية لن تكون لصالح محور إيران.
المعادلة بسيطة. إما تربح السعودية على إيران فيكون لبنان تحصيلاً حاصلاً، تنتهي فيه أدوات طهران بانتهاء مصدر سياسات العدوان، أو تخسر فيتكرس لبنان ضمن مكاسب إيران في المنطقة.
ثمة رأي يقول إن إهمال لبنان كليًا، وتدني منسوب الدعم في سوريا خطأ استراتيجي ولا بد من معونات تساهم في صمود الصامدين ولو أن قدرتهم محدودة جدًا. أميل لهذا الرأي. لكن الأرجحية لا تزال سعوديًا لخيار المواجهة المباشرة مع إيران!
هذا معطى جديد علينا الاعتياد عليه. من الآن وحتى تتضح الصورة، أيها اللبنانيون انسوا السعودية!
نقلاً عن “الشرق الأوسط”