كانت الاشكال المتنوعة للدين القومي الفارسي ،وخاصة تبجيل الاله مثرا ، ذات اهمية رئيسة في بلاد الرافدين والمناطق المجاورة لها، وكان هذا فوق كل شئ ،صحيحا فيما يتعلق بالطبقات الفرثية العليا ، وانعكست سيطرة مثرا الاستثنائية ايضا في المدى الذي انتشرت فيه عبادته فيما وراء الحدود الفارسية ، حتى اصبحت طرائق ممارسة طقوسه تعرف باسم ،، الطقوس المثراوية ،، وهذه مورست في الحقب الفرثية في كل من دورا اوريوس واوروك في جنوب بلاد بابل .
ولم تكن هذه الطقوس التي مزجت بعناصر رافدية ذات سمات فلكية ، الادلة الوحيدة على مكانة المثراوية السامية ،ثم ان تبجيل مثرا كان ملحوظا بشكل خاص في ارمينية وبلاد فارس الشمالية الغربية ، وبالفعل كانت ميديا الدنيا وميديا العظمى المراكز الاساسية لعبادته ، فهناك تركزت السلطة الدينية العليا وتمثلت بسيطرة الطائفة الزرادشتية الكهنوتية القوية التي رست في ايديها سلطة البت في المسائل الدينية ،وعمل رجال الكهنوت انفسهم في دورا بمثابة كهنة لمثرا وربطوا انفسهم ـــ كما يبدو ــ مع العبادة المثراوية في بلاد الرافدين وفي اسيا الصغرى ايضا ،واخضعوا بهذا التصرف انفسهم لتاملات النظام التوفيقي ..
نالت عبادة مثرا تقديرا اوفى في المناطق الايرانية الصرفة ،وبصورة واضحة في اقليم ميديا، فهناك نعم مثرا بمنزلة سامية في التفسير ,, الزرادشتي ,, ولاقى قبولا لدى طائفة الكهنوت الزرادشتية لميديا ، كون هذا الدين الذي كان فيه زرادشت هو الاله الاكبر ،وقد كان الهاَ للزمن والقضاء والقدر ، وممجد جدا لتدخله في مجالات الشؤون البشرية ، وكان ابنه أهورا مزدا هو الذي حارب اهرمان الذي مثل قوة الشر ، وفي ساعة الحسم وقف ,, مثرا ,, بينهما موقف الوسيط القادر بين الخير والشر ،والاعتماد بتخليص الانسان ،والتي تعد الفكرة المحورية في الديانة الزرادشتية بشخصية مثرا ،حيث كان هو دائما المخلّص ،ولذلك احرز لقب ,, بُزركَ ,, واشتملت النزعة الزرادشتية العقائدية على الهة انثى هي بمثابة رمز للام والخصب ، وكانت تسمى في بلاد فارس باسم ,, اناهيد ,, وقد حظيت بمكانة مبجلة جدا ومتميزة خلال الحقبة الفرثية ..
تعد بلاد بابل الجنوبية المنطقة التقليدية للطوائف المعمدة ، ولا يوجد اي شئ عرضي حول الحركات المعمدة التي كانت قد تأصلت هناك ، ويمكن القول ان هذه التعاليم استمرت دون انقطاع منذ العهود المبكرة للسومريون مرورا بأحلك الازمات الى يومنا هذا .. ففي عهود السومريون بدأت في مدينة ,, أريدو ,, الواقعة جنوب العراق عبادة ارتبطت مع ,, ايا ,, وهو اله سماوي كبيرـــ مع برجه السماوي وزوجته ,, دامكينا ,, وابنه ,,أسري لودو ,, ـــ وهو الذي عرف فيما بعد باسم مردوك ـــ ، وقد شغلت فيها اعمال ,, الغسل والتطهير ,, دورا هاما كوسيلة لانقاذ المرضى من سلطان الشر وشفائهم،كما كان الزيت الذي عرف باسم ,,زيت الحياة ,, ايضا عاملا هاما في مجموعة الطقوس .
في الجوانب الايجابية للنصوص الدينية المقدسة ، امل العابدون بضمان الحياة باكلهم عشب الحياة او ثمرة شجرة الحياة ، او ان يرش عليهم ماء الحياة ،او ان يشربوا هذا الماء ، وتورد النصوص كيف شرع جلجامش في البحث عن عشبة الحياة ، وكيف صعد ,, آدابا ,, الى السماء حيث قدم له الطعام مع ماء الحياة ، وكيف مُسح بالزيت وأُلبس الثياب الفخمة ، وكانت هذه الطقوس في الواقع طقوسا جرت في العادة بمناسبة تتويج احد ملوك سومر ، وواضح فيها ان الانسان العادي قد امل ان يشارك فيها في نهاية الامر . والمهم ان ملحمة جلجامش قد انتهت بتشاؤم تام ، صحيح ان البطل قد وجد عشبة الحياة ،لكنه فقدها ،واخفق بالتالي في جلبها الى رفاقه لياكلوها ،ومهما يكن الامر فاننا نعلم انه كان في بلاد الرافدين مايمكن تسميته ,, طوائف صوفية ,, لم يخب املها في ضمان بقاء ,, الحياة ,, ابداً ..
من الواضح ان طوائف التعميد في بلاد بابل الجنوبية ،كانت فروعا ناشئة عن المجموعات الصوفية الشرقية القديمة التي وضعت في صلب اعمالها التعبدية ، تعويذة اولية ضد الشر والاشرار، فغسلاً ,,وضوءاً,, مقدسا ثم صلاة جماعية ، انما اذا كانت بلاد الرافدين قد انتجت الممارسة الدينية في اطارها الطقوسي ، فان بلاد فارس هي التي اعطت معنى تامليا عميقا لهذه الطقوس بالذات ،وواضح هذا في ,, الطائفة المندائية ,, ، وهي طائفة معمدانية صغيرة مازال لها اتباعها باعداد قليلة متواجدة في العراق وايران ، والقسم الاعظم ،هاجر الى اوروبا وامريكا واستراليا، مابين الهجرة الاقتصادية ،واللجوء باسباب الاضطهاد الديني والاجتماعي ..
ان المندائيين المعاصرين هم احفاد انحدروا من الطائفة المعمدانية الرافدينية القديمة التي كانت موجودة ايام ,, ماني ,, وقد حافظوا بايمان على تراثهم وكتابات طائفتهم المقدسة وعلى معتقداتها ومظاهرها واساليب عملها الروحية ، لكن متى نشأت عقيدة هذه الطائفة ؟؟ تلك مسألة موضع خلاف ، لان ادبها لم يدون ، وقد ذهب بعضهم الى القول بأن العقيدة المندائية قد تطورت في مرحلة متأخرة من تطور المانوية ، وان نقاط التشابه بين الديانتين ماهي الا ادلة تظهر اقتباس العقيدة المندائية من المانوية .. ولا شك ان هذا الرأي قد جرت صياغته بسرعة بالغة ، ذلك ان نصوص التوسل والخشوع في الطقوس المندائية يمكن عزوها ,, على اساس عمليات تحليل الخطوط واللغة ,, الى عام اربعمائة بعد الميلاد ، فهي مكتوبة على الواح رصاصية ،وهي تحصي اسماء الملائكة الاثيرين ، ثم تقدم سلسلة لغالبية الافكار العقائدية لديهم ،خاصة تلك التي لها صلة وثيقة بالموضوع ، وتقودنا الادلة المستخرجة الى الاعتقاد بان العقيدة هذه كانت متطورة تماما في عام 350م ,, (*) انما لايزال هذا التاريخ يضعها قرنا من الزمن بعد قيام ماني وتبشيره بديانته ،لكن هذه النقطة ليست الوحيدة امامنا للتقدير ،فقد كان المندائيون قد نالوا هذه التسمية تمشيا مع كلمة التسمية الآرامية الشرقية وهي ,,مندا او مندائي ,, لكن المندائيين انفسهم اطلقوا على انفسهم اسم ,, ناصورائي ,, وهي ـــ وهذا امر غريب حقا ـــ عبارة تعني المسيحيين ايضا ،ونجد في انجيل متي 23/2 وصف يسوع على انه ,, نارُرَيوس ,, ــ وتستخدم الترجمات السريانية عبارة ناصُرّايا ـــ وقد فسرت على انه من الناصرة ،ومع ذلك فقد ادرك ان عبارة ,,ناصرائي او ناصورائي ,, ليست الصيغة الطبيعية الناشئة اشتقاقا عن ,,ناصرة ,, ولم يفقد التوليد ايا من فعاليته ، ذلك ان المندائيين لم يعبروا مطلقا غىر بتسمية المسيحيين ,, بالمسيحيين ,, ولم يسموهم قط ,, ناصورائيين ,, وهي التسمية التي اطلقوها على انفسهم وبأصرار .. فان هذا الافتراض يمكن الدفاع عنه ،ذلك ان نقش كرتير في ,, نقش رستم ,, قد عدد غير المؤمنين بالزرادشتية الذين تباهى ,, موبذ موبذان ,, في انه اضطهدهم وميز بالذكر بين المسيحيين والناصورائيين ،ويمكن تحديد تاريخ هذا النقش بسنة 275م تقريبا، وبناء عليه يمكن القول ان المسيحيين والناصورائيين قد وجدوا في ذلك التاريخ داخل حدود الامبراطورية الساسانية بمثابة اتباع طائفتين عدت الامبراطورية الفارسية كلا منهما عقيدة مختلفة عن الاخرى ،وتتوافق هذه الاوضاع مع حقائق اخرى فيما يتعلق بلفظ ناصورائي ،فقد وجد ـــ مثلا طائفة مسيحيةــــ يهودية تحت اسم نصرؤي ،ولاشك انه كان لدى المندائيين العديد من التقاليد اليهودية ،واظهروا العديد من الاثار التي توحي باصل فلسطيني ،وعلى الرغم من ذلك فان الامر لم يكن تقليدا ملتزما ،فان مخطوطات البحر الميت المكتشفة حديثا كانت مفيدة وفعالة رغما ان ما اعلن عنها الا الشئ القليل ، لذا كان للمندائيين الحق التاريخي لجميع مظاهر التسمية بناصورائي التي عنت كما يبدو شيئا يشبه الملاحظة او الاعتراف ،ومن المحتمل ان عبارة ,,ملاحظة او اعتراف ,, تشير الى مماشاة او مسايرة الحركات ذات الاستخدامات المعمدانية المميزة ..[ يتبع ]
( *) ـــــ تحتفظ متاحف لندن وباريس بعدد من هذه الالواح التي عثرت عليها الفرق الاثارية البريطانية والفرنسية ،في العقود الاولى من القرن الماضي،كما احتفظ المتحف العراقي بعدد اقل وبفترات متفاوتة،من قبل فرق مشتركة محلية واجنبية ،وقد تعرضت للسلب في 2003،ولم يعثر عليها حتى الساعة.
المصادر-;-
ايران القرن الثالث ـــ سابور وكرتير ـــسبرنغلنغ ـــشيكاغو 1953
النشرة الدورية لمعهد الدراسات الشرقية والافريقية ـــ لندن 1954
عناصر رافدية ـــ جيووايد نغرين ـــ 1961
يهود ايران وبلاد الرافدين ـــجيووايد نغرين ـــ 1957
عبادة مثرا ــــ كومونت ـــ 1923