في الخمسينات اختار عدد من الدول العربية الصداقة السوفياتية، لأن الولايات المتحدة اتخذت قرارًا نهائيًا بالانحياز إلى إسرائيل. أي أن الخيار العربي لم يكن الأفضل، لكنه كان المتوافر. تعرّض هذا الخيار لأزمات واهتزازات كثيرة، ورغم صدق النيات المتبادلة، لم يفضِ إلا إلى الفشل.
عندما شعرت الدول العربية أن الولايات المتحدة الأوبامية قد تخلّت عنها تمامًا إلا من بعض جمل تجميلية لحقيقة لا يجمِّلها شيء، رأى العرب في هذا الوضع المتدهور، أن الأنسب البحث عن توازن دولي جديد، يحمي المصالح العربية ويخفف انعكاس الصراع على المنطقة.
لذلك، سعى بعض القياديين إلى فتح صفحة كبرى مع فلاديمير بوتين. وكانت لديهم قناعة بأنه حيث لا يستطيع أن يكون حليفًا، يمكن أن يكون صديقًا. وإلا فإنه سوف يذهب في تحالفه مع إيران والنظام السوري، من الفيتو السياسي المعطل لكل مساعي الحلول، إلى العمل العسكري المسهل لكل أنواع الكوارث. أعتقد، متواضعًا، أن الرهان بالغ في التفاؤل. كان يجب أن تُدرس أكثر شخصية بوتين الذي لا يعرض على الروس والعالم أفكاره، بل عضلاته. وكضابط سابق في المخابرات لا يقول أبدًا ما يعنيه، بل العكس.
وفي إمكان بوتين أن يمزق العهود والوعود والاتفاقات من دون أن يتردد لحظة واحدة. فالذي أرسل شبّيحته يحتلون القرم أمام أعين العالم، لن يتراجع عن شيء. والذي محا غروزني وأقام فوق مقابرها الجماعية مدينة جديدة، وعيَّن على أهلها طاغيًا يهوى المصارعة، هو أيضًا – هذا الرجل، لن يقيم وزنًا للمبادرات الودية وعروض الصداقة.
اكتشف العرب في أزماتهم الكبرى مرة أخرى، أن الولايات المتحدة شريك غير موثوق، ولكن روسيا صديق لا يؤتمن. لقد ذهب بوتين إلى سوريا تحت شعار محاربة «داعش»، التي يتكتل العالم كله ضدها، فإذا به يحارب الجميع ويداعبها. وإذا به يدمر جنيف 3 كما دمَّر من قبل جنيف 1 و2. وسوف يستمر في تدمير كل شيء، مشهرًا سيف الفيتو في نيويورك، وسيف الخشب في جنيف، وسيف السوخوي في سوريا.
لا يمكن طبعًا الوصول إلى حل من دون روسيا، ولا معها. لأن الفكر القائم على العضل لا يأبه لشيء. ولا يتكلف الأمر أكثر من محو المدن، ثم البناء فوقها. ودائمًا يوكل الأمر إلى زميل في المصارعة الحرة وحائز على «حزام أسود» في التايكوندو. اسألوا الشيشان.