عبدالله حبه – موسكو
قد يبدو غريبا ان يتناول باحثان من جامعة ادنبره في اسكتندا هما فابيو كابياني وكاثرين كوبهام بالدرس والتحليل نشأة القصة والرواية في العراق المعاصر من وجهة نظر مخالفة لما اعتدناه لدى نقادنا. فإن الباحثين الاوروبيين الغربيين لديهم الكثير مما يتطلب الكتابة عنه في ادب القارة العجوز، وليس الاهتمام بأدبنا العربي الذي اخفق حتى الآن في كسب الصفة العالمية. فما يترجم من اعمال كتابنا الى اللغات العالمية الحية يعد على الاصابع. ففي روسيا لن تجد في مكتباتها سوى عدة مجلدات متفرقة لأعمال جبران خليل جبران وطه حسين ونجيب محفوظ وغائب طعمة فرمان قام بترجمتها بعض المستعربين المتحمسين، لكنها لا تجد صدى لها في الاوساط الادبية البتة. فعلى سبيل المثل يقبل القارئ الروسي على مطالعة اعمال الياباني موراكامي والكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز وغيرهما من الكتاب غير الاوروبيين التي تطبع بملايين النسخ، ولكنه لا يعرف شيئا عن الكتاب العرب المعاصرين. وتكمن أهمية الكتاب الذي صدر أخيراً في اسكتلنده بعنوان “الرواية العراقية” من قبل المؤلفين فابيو كاياني وكاثرين كوبهام في انه يقدم دراسة تحليلية اكاديمية لأعمال اربعة من الكتاب العراقيين بشكل ختلف كثيرا عما يكتبه نقادنا الذين يميلون الى الانشاء والعبارات المنمقة التي تملأ احيانا عدة صفحات دون تحتوي على اية افكار .
وقد ارسل لي فابيو كابياني احد مؤلفي الكتاب مشكورا نسخة من الكتاب بعد صدوره. وكنت قد تعرفت عليه في لندن وحدثته عن بعض الذكريات حول اللقاءات مع غائب طعمة فرمان الذي رافقته في موسكو خلال عدة عقود من السنين. وابلغني فابيو عن النية في ترجمة ” النخلة والجيران” الى اللغة الانجليزية.
والكتاب الحالي رؤية اكاديمية رصينة لأربعة من ابرز كتاب القصة والرواية الذين ظهروا في عراق الخمسينيات- الستينيات، وهم غائب طعمة فرمان(1927 – 1990) وعبدالملك نوري (1921-1989 )وفؤاد التكرلي (1927-2008) ومهدي الصقر (1927-2006). ويشير الكاتبان الى المصادر التي اعتمداها في البحث، ومنها كتابا الناقد عبدالاله احمد (1940-2007) ” نشأة القصة وتطورها في العراق 1908 – 1939″ و”الادب القصصي في العراق منذ الحرب العاملية الثانية “. كما اعربا عن الامتنان الى الكاتبين الراحلين فؤاد التكرلي ومهدي عيسى الصقر على المعلومات والكتب التي ارسلاها الى الباحثين.
ويشير المؤلفان الى ان بحثهما يراد به سد ثغرة في دراسة الادب العربي الحديث باللغة الانجليزية. علما ان البحث يتناول بشكل عام القصة والرواية في العراق مع التركيز على الكتاب الاربعة المذكورين لدورهم الكبير في هذا المضمار.
ويقول المؤلفان ان عبدالملك نوري صاحب مجموعة من القصص القصيرة الاصيلة التي تتسم بالحداثة، يجمع فيها بين الاعتبارات السياسية والاجتماعية واهتمامه بالتجربة في الادب. وبالرغم من ان النقاد اهملوا عبدالملك نوري كثيرا حتى الفترة الاخيرة، لكن القصص القليلة نسبيا التي كتبها ومنها “الرجل الصغير” تمثل البادرات الحقيقية للقصة الفنية في العراق ، والهمت الكتاب العرب الآخرين الذين سبقوا زمانهم ايضا. بينما وجدت الرواية العراقية في اعمال غائب طعمة فرمان النضوج الفني، إذ ان اعماله واقعية وتتصف بتعددية الاصوات مع وصف نوائب وارزاح المجتمع العراقي في النصف الثاني من القرن العشرين ، بالرغم من انه كتب غالبية اعماله في المهجر بموسكو.
ويؤكد المؤلفان على ان مهدي عيسى الصقر يعرف بقصصه القصيرة ذات المواضيع الاجتماعية ، وقد برز على الاخص في الفترة الاخيرة من حياته حين ألف ثماني روايات تختلف جميعا من حيث المعالجات والاسلوب. علما ان سنوات حياته الاولى في البصرة تتفاعل مع افكار وصور مبدعين آخرين مثل الشاعر بدر شاكر السياب أكثر من الكتاب الثلاثة الآخرين الذين نشأوا في بغداد. كما انه عاش طوال حياته في العراق مما يترك اثره في عمله الادبي.
اما روايات فؤاد التكرلي فتتميز برأي الكاتبين بالعمق والشمولية بصورة غير عادية في الادب القصصي والروائي العراقي. ويمكن اعتباره بحق احد أعظم الروائيين العرب في القرن العشرين الذي تتطلب اعماله المزيد من الدراسة الوافية والجدية أكثر مما سبق.
وبرأي المؤلفين، فأن الادباء الاربعة المذكورين ينتمون الى ما يعرف بـ”جيل الخمسينيات” في العراق. علما ان هذه الفترة مهمة في تاريخ البلاد من وجهة النظر السياسية والاجتماعية، حيث ان اعوام الخمسينيات كانت محورية من وجهة نظر الادب. ففي هذا العقد بدأ الادب القصصي يتطور في العراق من التجارب الريادية الى الشكل الادبي الاكثر نضوجا وابداعا.
ويتضمن الباب الاول من الكتاب استعراضا لتطور الادبي القصصي العراقي منذ البدايات المتمثلة باعمال سليمان فياض (1885-1951) ومحود احمد السيد (1903-1937) وذو النون ايوب (1908-1988). ولا يقتصر تحليل اعمالهم على الجانب الادبي فقط، بل يصور كيف حدث خلال عدة عقود من السنين التحول في تفكير المثقفن العراقيين بصورة دراماتيكية، بعد ان جرى توحيد ثلاث ولايات عثمانية هي الموصل وبغداد والبصرة في دولة واحدة برئاسة ملك وتحت اشراف بريطانيا.
وفي الباب الثاني يناقش الكاتبان بالتفصيل ست قصص للكاتب “الثوري” عبدالملك نوري الذي لم يحظ باهتمام النقاد في العراق كثيرا في حينه بسبب مرضه وانعزاله.علما ان عبدالملك نوري تأثر بأحد الرواد الاوائل وهو الاشتراكي – الواقعي ذو النون ايوب، وكذلك بالادب النثري العربي القديم، علاوة على تأثره بالادب الاوروبي ولاسيما رواية جيمس جويس ” يوليسيس” الصادرة في الاربعينيات. ( ويتذكر كاتب هذا السطور احاديث عبدالملك في اثناء اللقاءات في مقهي البرازيل مع المثقفين الشباب المعجبين به بعد نشر قصته الرائعة ” الرجل الصغير” وقبلها مجموعة ” نشيد الارض”. وكان عبدالملك يأتي الى المقهي بعد انتهاء الدوام الرسمي في مقر عمله حيث مارس المحاماة قبل ان ينتقل الى السك الدبلوماسي . وكان يحمل دوما معه احد كتب سلسلة ” بوكيت بوك” بالانجليزية التي كان يتقنها والتي تحتوي على مختلف الروايات. وايامذاك حدثنا عبدالملك لاول مرة عن جيمس جويس ودوس باسوس وغيرهما من الادباء المحدثين الذين لم نكن نعرف عنهما شيئا). وقد مارس عبد الملك نوري تأثيره ايضا في ابداع فؤاد التكرلي الذي كانت تربطه به علاقة صداقة. ويعزى الى عبدالملك نوري الفضل في ادخال اسلوب التداعي والحوار الداخلي في الادب القصصي العربي عموما – حسب رأي المؤلفين- في فترة الاربعينيات. ويعتمد بحث اعمال عبد الملك نوري القصصية من خلال تصعيد المشهد الادبي في بغداد في اعوام الخمسينيات ، والتي ينظر اليها الادباء بصفتها ” فترة ذهبية ” حين كانوا يبحثون عمدا عن الالهام في الادب الاجنبي ( الادب المصري والانجليزي والامريكي والفرنسي ولاسيما الادب الروسي). وتم في الكتاب توثيق التفاعل بين ادباء وفناني العراق في المقاهي العامة في اواخر الاربعينيات واواسط الخمسينيات، وكذلك التبادل الشكلي لحدما في المجلات الادبية الصادرة في تلك الفترة في العراق والدول العربية الاخرى.
وتتم في الكتاب لاحقا دراسة تطور الادب القصصي العراقي عبر المناقشة الوافية للجوانب الشعرية والاسلوبية في مجموعة روايات فرمان والصقر والتكرلي. ويجري في هذه الروايات التحول من الاهتمام بالموضوع السياسي والاجتماعي الى موضوع اكثر جسارة وأكثر نضوجا من الناحية التقنية، بالرغم من بقاء الاهتمام بالعنصر الاجتماعي.
ويكرس الباب الثالث الى المجال الادبي وانماط الواقعية المختلفة في رواية غائب طعمة فرمان ” النخلة والجيران “(1966). وتعتبر هذه الرواية أول رواية عراقية ناضجة من الناحية الفنية. ويكرس البحث على اجراء تحليل مقتصب لهذه الرواية الرائعة. ويتضمن الباب دراسة شاملة ووافية لكيفية تصوير المؤلف للحياة في بغداد في سنوات الحرب العالمية الثانية .
ويبين الباب الرابع كيفية تطور اسلوب غائب طعمة فرمان بعد نشر روايته الاولى. وتعطى دراسة لخصوصية الرواية الثانية ” خمسة اصوات” (1967) ولروايته الاخيرة ” المركب”(1989). ويقدم المؤلفان تحليلا لكيفية قيام فرمان الذي عاش في المهجر في موسكو طوال ثلاثين عاما بكتابة اعمال تجسد التحولات الجارية في المجتمع العراقي في الفترة من الخمسنيات وحتى السبعينيات.
ويجري في الباب الخامس تقديم رواية مهدي عيسى الصقر ” الشاطئ الثاني”(1998) الذي بلغ فيها الكاتب النضج من حيث الاسلوب والتقنية الروائية. ويعطي المؤلفان تحليلا فنيا للسمات الشكلية مع التركيز بصورة خاصة على كيفية تناغم الانماط المختلفة للحوار لكي تصور الحيرة الاخلاقية للبطل وخياراته. وتدور احداث الرواية ليس في بغداد بل في موطن الكاتب في البصرة.
ويناقش المؤلفان في الباب السادس الطرق التي يستخدمعها الصقر لدى تناول موضوع الحرب والعنف في غالبية رواياته. ويظهر المؤلفان في رواية “بيت على نهر دجلة “(1990) و ” صراخ النوارس “(1997) مقارنة كيفية تصوير الحرب الطويلة الامد وكيف ان المعالجة الوثائقية للحدث تندرج في التورية والاسلوب الفني. ولدى بحث الرواية الاولى للكاتب “الشاهدة والزنجي” ( 1987 )، وآخر رواية له ” امرأة الغائب”(2004)، يشير المؤلفان إلى كيفية اختيار الكاتب اسلوب التورية لتصوير ظاهرتين اصبحتا جزءا من الحياة العراقية وهما : الاحتلال العسكري واختفاء الجنود من الساحة، حيث يركز الكاتب في هاتين الروايتين على ورطة امرأتين بشكل خيالي وغير متوقع.
وفي الفصل السابع يتم تناول رواية فؤاد التكرلي ” المسرات والاوجاع”(1998). ويعتقد المؤلفان ان هذه الرواية يمكن من حيث الشمولية والبنية ان تقارن بالاعمال الادبية الاجنبية الواسعة الانتشار. انها تصور حياة رجل عراقي من الطبقة المتوسطة خلال الاحداث التاريخية في تاريخ العراق الحديث. وتعتبر خاتمة اعمال التكرلي في شمولية الطرح في التعبير القصصي والتي شغلته منذ ان كتب روايته الاولى ” بصقة في وجه الحياة”(1948).
وفي الفصل الثامن يتناول المؤلفان المواضيع التي تجددت وبعثت من جديد في رواية التكرلي ” الرجع البعيد” (1980)، التي تعتبر من اكثر الرويات العراقية نجاحا، وكذلك بصفتها اسهاما بارزا في الرواية العربية عموما. وتظهر دراسة هذه الرواية كيف يبرّز الكاتب الاحداث التاريخية والمشاكل المميزة للمجتمع العراقي حصرا باسلوب قوي، وفي الوقت نفسه يقدم انعكاسات مقنعة للتعامل بين الافراد والمجتمع والتي تتسم بمصداقية شاملة.
كما يتناول الكتاب باقتضاب موضوع الادب العراقي في المهجر.
ويظهر الكتاب عموما معاناة الكاتب العراقي الذي يضطر الى الهجرة ومعاناة حياة النفي او فرض العزلة على نفسه في بيته. وهذا يعني فقدانه لجمهور القراء الذين يجب ان يلتقي بهم ويعرف آرائهم وتطلعاتهم، ناهيك عن مشاكل المجتمع الذي يعيش فيه الكاتب.
20 نيسان 2014