المدن: #الرقة: تعيش مدينة الرقة أيامها الأخيرة بانتظار “الملحمة الكبرى”
بعد انسحاب تنظيم “الدولة الإسلامية” من مدينة الطبقة، التي سيطرت عليها “قوات سوريا الديموقراطية”، وهزائمه في الموصل العراقية، وقبلها على يد المعارضة السورية في ريف حلب الشرقي، بدا وكأن اليأس قد دبّ بين مقاتلي “الدولة”، وتفشت بينهم روح الهزيمة كقدر ينتظره الجميع. وسيطرت “قسد” على معمل الغاز، ليل الجمعة، وأصبحت بذلك على بعد 5 كيلومترات عن مدينة الرقة، من الشرق.
وبرز خطابان ضمن صفوف التنظيم مؤخراً؛ الأول ثأري منفعل يقول بالقتال حتى آخر قطرة دم وعدم تسليم الرقة إلا حطاماً، والثاني أكثر عقلانية، يُدرك أن الهزيمة قريبة، فدعا أنصاره للحفاظ على العقيدة النقية للتنظيم، فهي مُقدّمة على الحفاظ على الأرض. فالأرض ليست إلا وسيلة، والغاية منها نشر الدعوة، وقد تم ذلك.
وتعيش مدينة الرقة أيامها الأخيرة بانتظار “الملحمة الكبرى”، بسكانها البالغ عددهم 300 ألف نسمة، في ظل أزمة خبز خانقة، وندرة المياه الصالحة للاستخدام البشري، فضلاً عن انعدام الكهرباء، سوى بعض المولدات التي لا تعمل إلا لساعات قليلة.
ولا تُفارق طائرات الاستطلاع سماء الرقة، ملتقطة أي تحرك للتنظيم، وطائرات “التحالف” الحربية حاضرة بشكل فوري، تستهدف وبشكل يومي أطراف المدينة. وتشارك المدفعية الفرنسية والأميركية، التي نُصبت على بعد 7 كيلومترات شمالي المدينة في قرية شنينة وعلى المنخر الغربي والشرقي، في قصف المدينة.
ويستعد التنظيم بشكل كبير في حي “شمال السكة”، بحفر خنادق وأنفاق، ونصب الدشم والسواتر، وأخلى الحي من سكانه، واستولى على جميع البيوت لفتح ثغرات في الجدران لتسهل له الحركة بعيداً عن مراقبة “التحالف” الجوية. ومن المتوقع أن تكون هذه المنطقة الخط الدفاعي الأهم والأخير، وفي حال انهياره فأن المدينة ستكون مكشوفة أمام القوات المهاجمة. كما عمد التنظيم إلى تفخيخ أطراف المدينة بشبكة معقدة من الألغام، خاصة في الأماكن المكشوفة عسكرياً والتي يصعب عليه التمركز فيها وتغطيتها نارياً.
داخل الرقة حاول التنظيم إظهار نفسه بأنه غير مبالٍ بالحشود العسكرية الضخمة التي تتقدم باتجاهه، وعمد إلى عدم إظهار أي مظاهر عسكرية غير مألوفة، أو أي استعدادات للحرب القادمة، ما عدا أكياس الرمل التي وضعها قبل شهور في شوارع المدينة.
عبدالسلام من سكان الرقة، قال لـ”المدن”، إن خطيب الجامع وصف الأهالي، في صلاة الجمعة، بـ”ديوثيين”، بسبب “تقاعسنا على الجهاد، وأن هناك حور عين، وجنان، لمن قضى نحبه، وأن النصر حليفنا لأنه وعد الهي، والله لايخلف وعده”. وأكد عبدالسلام أن عناصر “داعش” يحاولون التظاهر بعدم الاكتراث، وتجنب إظهار القوة. إلا أن التنظيم نفّذ العديد من حالات الإعدام في الساحات العامة، لإعادة الهيبة وتخويف أهالي المدينة، والبرهنة على أنه ما زال قادراً على السيطرة عليهم. والتنظيم بحاجة إلى رسائل تطمين باتجاهين؛ الأول، لمقاتليه وأنصاره، والثانية للسكان المحليين والذين يحتاجهم كدروع بشرية وليتمترس خلفهم، كما سبق وفعل في جميع معاركه السابقة، وآخرها في الموصل. وذهب التنظيم إلى أكثر من ذلك، حيث قام بصيانة بعض الطرقات الرئيسية واصلاح الأرصفة وزراعة بعض الاشجار بالساحات العامة، رغم أنه لم يقم بهذه الإصلاحات في أوج قوته.
وتفيد الأنباء أن أمراء التنظيم في الرقة، أمروا الجباة بجمع الزكاة قبل أوانها السنوي في شهر رمضان، ما اعتبره الأهالي مؤشراً على أن التنظيم لم يعد على ثقة باستمراره في البقاء حتى ذلك اليوم. كما تمّ استدعاء “أمير النصارى” (الأرمني) إلى مكاتب الولاية، في استعراض على أخذ “الجزية” السنوية، كدليل على القوة، فمن يأخذ الجزية لا يمكن أن يكون مهزوماً.
وتعيش المدينة في عزلة عن العالم بعدما منع التنظيم أجهزة الستلايت، وأخضع الانترنت للمراقبة الأمنية. “داعش” أبلغ أصحاب مقاهي الانترنت، بعدم تجديد الاشتراك بالباقات الفضائية، ما يعني أن انقطاعاً للانترنت عن المدينة سيحدث بشكل نهائي خلال أيام قليلة. كما أكد شهود عيان أن التنظيم عزم في الآونة الأخيرة على نقل معدات طبية وتجهيزات وأدوية إلى مدينة الميادين، شرقي ديرالزور، وقام بإفراغ المشفى الوطني في الرقة من معداته.
وأكدت مصادر خاصة لـ”المدن” أن التنظيم في الرقة ينتظر قدوم “جيش الخلافة” لمؤازرته في المعركة. ويُعتبر “جيش الخلافة” الذي أسسه العدناني، بمثابه “القوات الخاصة” في التنظيم. ويعتمد التنظيم على قوتين أساسيتين؛ “جيش الخلافة” ومهمته الدعم في المعارك الحاسمة والكبيرة وتحويل الهزيمة إلى نصر، بالإضافة إلى التدخل لحسم أي حالة تمرد أو عصيان ضمن أي فصيل أو أي ولاية من الولايات.. و”جيش الولاية” المكوّن من أبناء المنطقة، بالإضافة إلى المفروزين من جنسيات أخرى، ولكنه لا يقاتل إلا ضمن حدوده الإدارية التي رسمتها قيادة التنظيم. ويشكل المقاتلون السوريون العمود الفقري لـ”جيش الولاية” في الرقة، بالاضافة إلى الأذريين والشيشان والليبيين، أما السعوديون فجلّهم من الشرعيين والقضاة والدعاة، والتوانسة ممن يُشكلون العدد الأكبر من المقاتلين العرب، فقد اهتموا بالاقتصاد؛ من “ديوان الزكاة” إلى أموال النفط و”ديوان الغنائم”.
وانتشرت في الآونة الأخيرة أنباء عن هرب العديد من العناصر المهاجرين، إلى خارج مدينة الرقة، بعد إدراكهم لعدم كفاءة المعركة القادمة، ما دفع التنظيم إلى نصب حواجز منعاً لتكرار تلك الحالات. وانتشر الأمنيون في أنحاء المدينة. ومن بقى منهم توزع على أحياء المدينة، بين السكان المدنيين.
وبعد الخسائر البشرية الكبيرة، التي تعرض لها التنظيم، أفاد مصدر خاص لـ”المدن”، أن التنظيم أصدر قراراً بالسماح لأبناء الرقة، الراغبين بالانضمام للقتال في صفوفه، من دون الحاجه إلى “دورة شرعية” أو “دورة استتابة”، كما يجري في العادة.
وبحسب أشخاص تمكنوا من الخروج من الرقة مؤخراً، فقد أكدوا أن “أمير السبايا” أبو مالك الفلسطيني، والذي لا يتجاوز عمره عشرين عاماً، كثف من ظهوره مستعرضاً لجموع المقاتلين والمدنيين سباياه، ومؤكداً أن كثيرات منهن قادمات إلى المدينة.
ووقع أهل مدينة الرقة حالياً بين فكي التنظيم وطيران “التحالف”، وهم في حيرة من أمرهم، فالبقاء سيجعلهم عرضة لمعارك عنيفة وقصفاً جوياً سيدمر المدينة فوق رؤوسهم، والهرب من مناطق التنظيم يحمل صعوبة كبيرة وكلفة مادية ومغامرة بين حقول الألغام. ومن استطاع منهم النجاة عبر خطوط التماس ووصل إلى مناطق سيطرة “قوات سوريا الديموقراطية” فهو ليس بأفضل حال، إذ يتم التعامل معه كمتهم، يوضع في مخيمات أشبه بمعسكرات اعتقال مذلة، لمدة غير محددة. هذا عدا عن تفشي الأمراض وسوء التغذية، وغياب المنظمات الدولية، رغم المناشدات المتكررة لإنقاذ المدنيين العالقين في المخيمات.