بسام يوسف يكتب: قصة طويلة شوي.
كل من درس في ثانوية رفيق اسكاف في اللاذقية في الفترة التي تمتد من افتتاحها وحتى منتصف الثمانينات من القرن الماضي سيتذكر الأستاذ ” يعقوب سعيد ” رحمه الله .
كان يعقوب سعيد من قيادات حزب البعث في اللاذقية قبل قيام حافظ الأسد بحركته السافلة 1970.
عندما وقعت الحركة قرر أن يغادر البعث ويعود الى عمله في التعليم واعتبر أن خير مايفعله اتجاه وطنه هو أن يكرس حياته من أجل جيال سوريا.
لا أظن أن أحدا درس في ثانوية رفيق اسكاف في تلك الفترة لايتذكر “يعقوب سعيد” وهو يلاحق الطلبة الهاربين ، في الحارات والأزقة ليعيدهم الى المدرسة ..كان يقول:
يا ابني تعلموا والله ما الكن الا العلم .. كان قاسيا ورحيما ، باختصار كان أبا حقيقيا لكل الطلاب .
لم أعد أتذكر بدقة زمن الحادثة التي سأرويها ، لكنني أرجح أنني كنت طالبا في الثالث الثانوي، يومها انتقل مدرس الكيمياء الى ثانوية أخرى فبقينا بلا مدرس، وبعد عدة ايام دخل الموجه ومعه مدرس جديد وأخبرنا أنه مدرس الكيمياء الجديد وغادر.
المدرس الجديد ولسبب ما، ربما لأن سمعة طلاب الثانوية المشاغبين كانت قد وصلته، وربما لأنه صاحب نظرية خاصة به في التعليم قرر أن يقطع رأس القط من اللحظة الأولى، فما أن أغلق الموجه الباب حتى التفت الينا عابساً ، كنا لانزال واقفين عندما اتجه الى مقعدي .
كان مقعدي في الصف الثاني من المقاعد وبجانبي كان زميلي “عبد الواحد دريوس ” وعبد الواحد شخص دائم الابتسام ، اقترب المدرس بوجهه المتجهم منا ثم سأل عبد الواحد بصوت زاعق:
– ليش عم تضحك ..؟.
حقيقة لم يكن عبد الواحد يضحك .. فقال وعلى وجهه اشارة استغراب كبيرة.
– انا ماعم اضحك .
لم يكد عبد الواحد ينهي جوابه حتى رنَّت صفعة مدوية على وجهه .
كانت الصفعة مفاجئة لنا كلنا، فعبد الواحد لم يكن يضحك فعلا، وهو من أقل طلاب الشعبة شغباً، فبدأت الهمهمات والاستنكارات الخافتة تصدر من الطلاب وتعلو، شعر الأستاذ الجديد أن مافعله لم يكن صائبا فانسحب فورا وبدأ بالدرس بعد أن أمرنا بالجلوس.
كان الدرس يومها بالغ التوتر، والهيبة التي حاول المدرس فرضها منذ اللحظة الأولى سقطت نهائيا.
انتهى الدرس يومها، وبعد خروج المدرس قررنا أن لانحضر أي درس قادم لمادة الكيمياء.
في موعد درس الكيمياء التالي وبعد أن انتهى الاجتماع في الباحة وأعطى الموجه أوامره بالتوجه الى الصفوف، استدرنا ولم نذهب للصف.
لم يلفت الأمر انتباه الموجه لأنه من الطبيعي أن تبقى بعض الشعب في الباحة سواء من أجل درس الرياضة أو درس الفتوة أو لغياب مدرس ما، وهكذا انسحبنا جميعا وتجمعنا في زاوية مخفية عن الادارة.
وصل المدرس الى الشعبة فوجدها فارغة، أخبر الموجه، فاستغرب الموجه أن تتغيب شعبة كاملة، المهم بعد عدة دقائق من التفتيش عثر علينا متجمعين في زاوية الباحة ، اقترب منا مستغربا تجمعنا:
– انتو شو عندكن بهي الحصة
أجابه أحد الطلاب :
– كيمياء ..
دهش الموجه:
– طالما بتعرفوا عندكن كيميا ليش مانكن بالصف ؟؟.
سكت الطلاب .. نظر إلي فقلت له :
– مابدنا نحضر للأستاذ الجديد .
ازداد حجم الدهشة :
– شو إضراب يعني ..؟.
صمتنا … فمسحنا بنظرة غاضبة ثم أمرنا بالذهاب الى الصف فورا، لم نستجب له فازداد غضبه وصرخ فينا.
– تحرك انت وياه ولا، قسما بالله بجبلكن الشرطة العسكرية..!.
بدأ الخوف يلتمع في العيون، كان التراجع صعباً، لا أدري إن كان الموجه قد أدرك التردد الذي بدأ يتفاعل في داخلنا فاستدرك قائلا:
– بالصف منحكي بموضوع الاستاذ.
يبدو أن جملته الأخيرة ساعدت البعض على حسم الأمر فتحركوا باتجاه الصف، ولأنني أحمق بما فيه الكفاية، فقد صرخت بمن توجهوا الى الصف:
– ارجعوا .. مارح ندخل ع الصف، وهون منحكي بموضوع الأستاذ .
توقف من كانوا قد اتجهوا باتجاه الصف، نظر إليَّ الموجه طويلاً ، هز رأسه متوعدا ثم قال حاسما:
– كلكن ع الصف، وانت اسبقني ع غرفة المدير.. والله لتنام اليوم بفرع الشرطة العسكرية!.
فرط اضرابنا … خطوة من هنا وخطوة من هناك وهكذا تسرب الحشد ووجدت نفسي أمشي في آخر الرتل المتجه إلى الصف، وأنا ألعن حماقتي.
انتظرت على باب غرفة المدير حتى انتهى الموجه من ادخال الطلاب والتحدث اليهم، وعندما وصل الى باب غرفة المدير، فتح بابها ودفعني الى داخلها تماما كما دفعني لاحقا السجان الى داخل مهجع السجن.
كان يعقوب سعيد – وهو نائب المدير – موجودا بالصدفة في غرفة المدير.
لم ينتظر الموجه ليسأله أحد عن سبب عنفه اتجاهي بل باشر فورا:
– هاد الخرا عامل إضراب بالمدرسة، وعم يحرض الطلاب على عدم الدخول إلى الصف.
حاولت الرد لكن الموجه قاطعني:
– اخرس ، استاذ محمد ( اسم مدير المدرسة ) ممكن تطلبنا الشرطة العسكرية ..؟.
مد مدير المدرسة يده الى الهاتف، عندها تدخل الاستاذ يعقوب قائلا:
– شو شرطة ما شرطة ..؟ طولوا بالكن لنفهم القصة. ثم توجه إلي:
– شو القصة يا ابني..؟؟.
المهم استطاع يومها الاستاذ يعقوب أن يجنبني زيارة الى فرع الشرطة العسكرية ( حتى الآن لا أعرف ماعلاقة هذه المشكلة بالشرطة العسكرية).
في الصف كان الوضع متأزما، فمدرس الكيمياء أدرك أنه أصبح في وضع سيء وزملائي كان طلبهم الوحيد لانهاء المشكلة هي عودتي الى الشعبة.
لم يطل الأمر أكثر من بضعة أيام حتى قرر مدرس الكيمياء أنه لن ينجح في المدرسة فغادرها لوحده.
بعد ثلاث سنوات وكنت لا أزال طالبا في الجامعة، وبسبب وضع العائلة المادي بالغ السوء كنت أبحث عن عمل خلال دراستي، وغالبا ما كنت أجد بعض ساعات التدريس في بعض الثانويات ، شاءت الصدف أن يوجد شاغر في ثانوية رفيق اسكاف، ولتدريس مادة الكيمياء أيضا.
أخذت ورقة التكليف من الموجه الاختصاصي وذهبت الى المدرسة، واتجهت فورا الى غرفة الاستاذ يعقوب، عندما رآني صفن قليلا، ثم قال لي: تذكرتك بس نسيان اسمك انت كنت طالب عنا بالمدرسة .
قلت له نعم أنا فلان ، مارح تتذكرني الا اذا ذكرتك بيوم اللي أضربنا وكانوا بدهن يبعتوني ع الشرطة العسكرية .
ضحك الاستاذ يعقوب، ثم قال لي: سكر الباب وتعا لقلك .
أغلقت الباب وجلست بجانبه، تنهد طويلا ثم قال:
يا ابني الشرطة العسكرية خربت سوريا، الله يجير سوريا من الشرطة العسكرية وأخوات الشرطة العسكرية، منشان شو جايي لعنا اليوم..؟.
ناولته ورقة التكليف، فضحك، قال لي :
– مابدي اخلص منكن ، تعب انتو وطلاب وتعب وانتو اساتذة، هلا بدي غير كل البرنامج منشان يتوافق مع محاضراتك، تفضل اكتبلي برنامجك بالجامعة لظبطلك حصصك بالمدرسة… بس ليك اللي اولو شرط آخرتو سلامة … المرة الماضية نفدتك من الشرطة العسكرية هلا ماعاد اقدر نفدك.. بقى الله يخليك بلا اضرابات.
غير الاستاذ يعقوب البرنامج، ودرست في ثانوية رفيق اسكاف ذلك الفصل، وفي نفس الفصل توفي الاستاذ يعقوب.
الرحمة لروحك يا استاذ يعقوب، لو تعلم ماذا فعلت الشرطة العسكرية واخواتها بسوريا..؟؟.