عنوان المادة مقتبس من مجموعة قصصية للكاتب الفرنسي ” جان ماري لوكليزيو ” الحائز على جائزة ” نوبل ” للآداب العام 2008 .بيد ان النص لا علاقة له بالكاتب المبدع.
بعد غياب قسري قررت العودة الى داخلي . أغوص في ثنايا الذاكرة المشبعة بالهموم، والخوف كحارس مرمى من ضربة جزاء غير متوقعه.
منذ أسابيع قليلة، صدر التقرير النهائي حول حالتي الصحية، من قبل لجنة حكومية خاصة. بعد فحوصات طبية استهلكت ما تبقى من أمل. النتيجة هي أن نسبة العجز وصلت الى 75%. أي ان ما هو صالح في الجسد،هو ما تبقى من نسبة أل 25% ومع ذاك الموضوع ليس مدعاة للحزن. فالروح ما زالت تطارد فراشات الحقل. ونسمات الصباح ومواقف الحافلات وأرصفة الشوارع . هي دعوة للفرح بما تبقى. هكذا.. استهلك العمر الجسد، إنه الزمن أو مآسي الزمن الضائع في معظمة خلف سراب شعارات التحرر والثورة في أوطان الوهم والفساد والطائفية.
أبلغت إبنتي الكبيرة بالنتيجة .. ضحكت، قالت ” مبروك ” هناك تقدم ؟؟!
فاجئني جوابها .. أدركت أنها لم تفهم ماذا تعني هذه النسبة.شرحتها لها باللغة اليونانية . عندها أحسست بحزنها أو ربما شممت رائحة دمعها عبر سماعة الهاتف…هكذا نحن كبرنا وضاقت مساحة الوقت المتبقي للتأمل .. وفي الحقيقة أنه لم يعد هناك وقت للتأمل. حدقة العين تكورت داخل محجرها. والأهداب أصبحت كأسنان مشط لعجوز، تكسرت أسنانه بتناغم مع عمرها الجسدي.
صرخ أحفادي الصغار ” جدو.. جدو”
أوخ..أوخ … من ينادي ..!
تعال نلعب.
حان موعد اللعب.
أمسك الأول بيدي اليمني والثاني بيدي اليسرى .. فرحت، كطفل صغير. ومع صراخ الصغار اختفت تلك النظرة الشاردة بين زمنين. لم تعد هناك بيوتاً صالحة للتأمل أو ودياناً وهضاب. اختفت ملامح الوطن. وحجب الضباب الرؤية إنه زمن الهجرة نحو الشمال . وارتفع جدار عازل كبير فاصلا بين زمنين. وفاصل البحر نصفين نصفه الأول للغرقى من المهاجرين، والنصف الأخر للحيتان.
” جدو .. جدو ” ابتسمت لكن ابتسامتي كانت أشبة بابتسامة الموناليزيا ، وحده ” ليوناردو دافتشي ” يعرف سر الابتسامة .
لم اعد أهوي السباحة، كما قبل سنوات على ما سمي ” ربيعاً “. ففي كل مرة على شاطئ البحر، تدمع عيني. حزناً على طفولة كانت تبحث عن أزقة وحارات وساحات أكثر أمناً وعدلاً. لكنها غرقت في بطن الحوت، ولم تنل من الحظ ما ناله ” يونس “ فالحظ لا يورث. بيد أن العنف والقسوة، تورث في عالم تتحكم فيه فضائيات تغييب العقل.
ومع ذلك، انحت من الحلم الذي غفي في ذاكرتي صورة جميلة للزمن الآتي !!؟ أرتق فتوقات الذاكرة ، وأنشر على حبل الغسيل رايات عودة ” أوذيس ” فكل الحكايات تؤكد أننا في زمن التحولات العجيبة ، وأن الأنهار الميتة، يمكن أن تحيى من جديد . وأن هناك ربيعاً قد مضى .. لكن هناك مواسم أخرى للفرح .
أصبحت مثل الأم التي لا تصدق أن من أحبته، يمكن أن يتغير شكل جسده أو يغيره الزمن.
آه… يا وطن سابق ؟؟
جدو .. ياجدو.. تمنيت ألا يكبر الصغار ويبقوا في عالم الطفولة. مع ألعابهم الالكترونية. لم تبلغ أعمارهم جميعاً ذكوراً وإناثاً سبع سنوات لكنهم يجيدون استخدام الكومبيوتر أفضل مني.
ففي طفولتنا كنا نتسابق ، للخروج في تظاهرة ضد المدعو ” بلفور ” ونلعن رب الاستعمار، الذي حرمنا حتى من الطفولة. أو نتسلق عمود كهرباء ، أو نلاحق قطط حارتنا. وفي أحسن الحالات نمتطي صهوة قبر مجهول . أو نلاحق صراصير الحقل . فنحن منذ الولادة لاجئون في زمن اغبر.
استهلك العمر الجسد، وتسللت الهزيمة الى نخاعي الشوكي مثل صبار صحراوي، لا تصدق أن الأعوام تمر كسحاب أثينا الصيفي، والأجساد تهترئ. والصورة القديمة عن عالمنا القديم، ومراع طفولتنا هي وحدها الصورة الباقية في الذاكرة. محفورة كنقوش فرعونية تتحدى الطائفة، والقبيلة، وضحالة السياسيين، وبائعي وهم الجنة لفقراء العقل. هكذا استهلك العمر الجسد.
وتفككت دواخلنا وليس فقط أوطاننا ..و تحولت الأوطان الى مقابر مجهولة في عالم يرقص فيه البهلوان السياسي والطائفي على خراب وطنه. ويكتفي بعد الموتى مجاناً. دون أن يستيقظ من وطأة الواقع التي احتال عليه بنفسه.وبقي أسير دائرة مغلقة. هل هناك أمل في مستقبل أفضل لمنطقة مستباحة طولا وعرضاً وعمقاً…ربما.. هناك مواسم أخرى لربيع حقيقي أخر..؟ أتمنى أن يبقى هناك من زمن قادم،ويعيش العالم بلا حروب، فقد استهلك الزمن الماضي جسد العالم الشرق أوسطي الغارق في كرسيه المتحرك.
سيمون خوري
أثينا 30 / 8 / 16