لم تكد تمضي على ولاية الرئيس ميشال عون فترة المائة يوم الأولى، حتى استعجل في خلالها وبعدها تسجيل خمس هزات يخشى أن تهدد التسوية السياسية التي انطلق بها العهد.
حديث مبكر عن التوريث الرئاسي، إثارته لمخاوف كامنة بشأن موقفه الحقيقي من المحكمة الخاصة بلبنان، الموقف من بشار الأسد، تلويحه بالفراغ البرلماني، وأخيرًا موقفان من سلاح ميليشيا «حزب الله».
في إطلالته الأولى بصفته رئيسا للجمهورية اللبنانية عبر إعلام غربي، قال عون لمحطة
«LCI»
الفرنسية إنه لا يفكر في ولاية ثانية، لكنه ألزم نفسه بالتزام غير دستوري بقوله «يجب أن تكون هناك خلافة جيدة» وأنه «يعد العدة» لذلك!
مبدأ الخلافة، أسوأ بما لا يقاس من تجارب التمديد المريرة في تاريخ لبنان، ولا سيما بعد الطائف. فنحن لسنا أمام حزب سياسي بالمعنى التقليدي له الحق في تهيئة نخب تواصل مسيرة الحزب، بل أمام محاولة توريث سياسي إلى لعنة التوريث في لبنان في رأس الهرم السياسي والمؤسساتي، الذي ينبغي أن يشكل متراسًا لحماية الدستور، وتداول السلطة، وتحديث الحياة السياسية في لبنان! وهو حديث عن التوريث قبل اختبار مصير التسوية السياسية التي جاءت بعون رئيسًا؛ ما يعني في حال فشلها، الإصرار على التمديد للاشتباك السياسي في البلاد، وإعادة تكرار تجربة التمديد لإميل لحود التي كلفت لبنان كل هذه الدماء، وكل هذا الدمار منذ خريف عام 2004 وحتى اليوم!
الخشية من غلبة الاشتباك على نجاح التسوية مرده السلوك السياسي لعون الذي استعرضه في الهزات الأربع المتبقية التي يظهر فيها منحازًا لا حكمًا.
في المقابلة نفسها مع محطة «LCI» الفرنسية، يقول عون، إن بشار الأسد سيبقى، والذين طالبوا برحيله يجهلون سوريا، وأن الأسد يشكل القوة الوحيدة التي بإمكانها إعادة فرض النظام وإعادة لمّ شمل الجميع!
فالذين طالبوا برحيله، قبل القوى الإقليمية والدولية، هم كتلة شعبية سورية كبيرة دمرت مدنها وترك ريفها نهبًا للعصابات الراديكالية، وقتل منها أكثر من نصف مليون، وهجّر أكثر من 13 مليونًا! وهؤلاء ممن سيبني معهم لبنان مستقبلاً العلاقات اللبنانية السورية. فأي جراح نفتحها بين البلدين بالجزم والتأكيد أن «الأسد يشكل القوة الوحيدة التي بإمكانها إعادة فرض النظام وإعادة لمّ شمل الجميع» وخلافًا لكل خطاب شبه الإجماع العربي والإسلامي والدولي!
لبنانيًا وخلال استقباله رئيسة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان القاضية إيفانا هريدليكوفا قبل أسابيع تمنى عون، الإسراع في إصدار الأحكام «لأن العدالة المتأخرة ليست عدالة»! خطورة هذا الموقف أنه صادر عن من يعلم مسبقًا أن العدالة الدولية تتسم بالبطء، وهو يستغل هذه «الطبيعة» لنفي العدالة أصلا عن المحكمة التي كلفت لبنان دماءً وأموالاً وسنوات ضاعت من عمر البلاد. لسنا هنا أمام نقاش نظري قانوني هو جزء من عموم النقاشات حول العدالة الدولية، ولا أمام خطاب تحفيز لتسريع المحاكمة، بل أمام موقف سياسي يشكك في أصل العدالة في قضية بحجم قضية اغتيال رفيق الحريري ومن موقع رئاسة الجمهورية، لا من موقع الاصطفاف السياسي!
لبنانيًا أيضًا، ذهب الرئيس عون بعيدًا في رفع سقف المواجهة حول قانون الانتخاب بإبدائه الاستعداد لتقبل الفراغ النيابي بدل إجراء الانتخابات النيابية وفق القانون النافذ في حال لم تنجح القوى السياسية في إنتاج قانون جديد! إن انطلاق العهد بعنوان استعادة الثقة، كمسمى لحكومة الرئيس سعد الحريري، يتطلب أولاً استعادتها في مواجهة استسهال الفراغ في المؤسسات الدستورية، واستعادة الثقة في مواجهة سياسية التصارع بالدولة وبمؤسساتها وليس عليها على مؤسساتها فقط.
أما آخر المواقف التي تثير الخوف على مرتكزات التسوية السياسية في لبنان، فموقف الرئيس عون من سلاح «حزب الله». قال عون في حديث إلى قناة «سي بي سي» المصرية «طالما هناك أرض تحتلها إسرائيل التي تطمع أيضا بالثروات الطبيعية اللبنانية، وطالما أن الجيش اللبناني لا يتمتع بالقوة الكافية لمواجهة إسرائيل، فنحن نشعر بضرورة وجود هذا السلاح». وأضاف أن «سلاح (حزب الله) لا يتناقض مع مشروع الدولة، وأن وجود (حزب الله) في سوريا هو ضد المنظمات الإرهابية، ولا يدخل في الصراع الإقليمي».
وحين أراد «تلطيف» موقفه أوضح عون في حديث آخر أن سلاح «حزب الله» «يخضع للاستراتيجية الدفاعية التي كنا نحاول أن نضعها وقد سبقتنا الأحداث»، لكنه كرر أن لبنان غير قادر على بناء قوة عسكرية قادرة على المواجهة مع العدو؛ لذلك عليه أن يستعمل طرقا خاصة للقتال تشترك فيها القوى النظامية والشعبية!
هذا كلام تجاوزه الزمن كحل لميليشيا «حزب الله» التي باتت عبارة عن الجيش الإيراني غير النظامي على كامل خطوط التماس والاشتباك في المنطقة. المشكلة ليست في مصادر القوة القتالية للبنان، بل في قرار السلم والحرب، ومن يحدد استراتيجية المواجهة ووفق أي مصالح وأولويات. سلاح «حزب الله» سلاح احتلال للقرار السيادي اللبناني وسلاح اعتداء على سلامة العيش اللبناني الواحد وسلاح تهديم للحياة السياسية والوطنية. فهل كلام رئيس الجمهورية تغطية لهذا الواقع؟
*نقلا عن صحيفة “الشرق الأوسط”.