الرؤية الفلسقية لكلكامش ‎

Gilgameshبقلم:عضيد جواد الخميسي

في الوقت الذي تؤكد فيه البنيوية على وحدة التناقض بين الطبيعة والثقافة كبنية اساسية للملحمة ، يرى الباحث الأميركي ـ جان مئير ـ الذي ترجم “ ملحمة كلكامش “ بالتعاون مع الروائي الأميركي جان كاردنر ( ان الملحمة تنطوي على وحدة الصراع الـ “ ابولوني / ديونيسوسي “ التي اعتبرها نيتشه عاملاً جوهريا في نشوء التراجيديا الأغريقية . وطبعا هذا لا يعني ان “ ملحمة كلكامش “ قد تأثرت بالتراجيديا الأغريقية لأن الأخيرة حديثة العهد بالقياس لملحمة الرافدين . انما نظرية نيتشه ، التي القت اضواء ساطعة على البنى الخفية للصراع في التراجيديا اليونانية ، قد تعيننا ان نفهم بشكل أفضل طبيعة الصراع في «ملحمة كلكامش» . يمثل “ أبولو “ ، عند نيتشه ، ديانة العقل أو الوعي ، التي تأخذ بمبدأ العلة والمعلول ، وتخضع العاطفة لسيطرة العقل ، في حين يرمز “ ديونيسيوس “ إلى اللاوعي الذي يطلق العنان للمخيلة والوهم والحدس ( كل ما هو نقيض لمعطيات العقل والمنطق ) . وبالنسبة لـ “ أبولو “ كل شيء في الوجود ينبغي أن يسخر من أجل المعرفة ، بينما يفضل “ ديونيسيوس “ التجربة لذاتها ، والتجربة الديونيسيوسية هي جمعية وطقوسية ، والخمرة والرقص وسائل لبلوغ النشوة . واذا كان الانسان الابولوني تهمه الحياة الابدية ، فالانسان الديونيسيوسي مهووس بالحيوية الأبدية . لذلك البطل التراجيدي هو ذاك الذي يعيش الخطر ويجازف بالكل ليربح الكل ، وهو الذي يتحسس ذروة واعماق التجربة ، ولكي تكون الحياة جديرة بالعيش ، لابد أن يكون الانسان متطرفا في بلوغه ذروة الشعور . فالانسان ، حسب هذه النظرية ، تتجاذبه قوى الوعي واللاوعي ، العقل والعاطفة ، الواقع والخيال .

يعتقد مئير ان الثنائية الابولونية / الديونيسيوسية لها نظير في “ ملحمة كلكامش» “. يرى مئير ان الاله (شمش) هو مثل “ أبولو “ ياخذ بمبدأ العقل . وكذلك نينسون ـ والدة كلكامش ـ تنزع نزوعا عقلانيا في تفسير الاحلام ، وتقديم النصائح لـ كلكامش . كما ان شمش ـ بعكس عشتار التي تأخذ بالتجربة الذاتية والشعورية ـ لا يظهر نفسه جسديا ليتحدث إلى الابطال ، بل يكشف عن حقائقه عبر الاحلام التي تتطلب التعليل والتأويل ، أي تستدعي اعمال العقل . ويبدو دور شمش مدهشا في توعية انكيدو الذي يعلن البغي التي قادته إلى المدينة حيث المرض . ونجد في نصيحة شمش إلى انكيدو اجلال لدور العقل الذي يمثله أبولو:

((لماذا يا انكيدو تلعن كاهنة الحب … المرأة التي اطعمتك طعام الالهة ، والتي جعلتك تشرب الخمرة التي يشربها الملوك … وكست جسدك بثوب رائع … ومنحتك كلكامش الوسيم صديقا؟؟))

فيما بعد يكتشف انكيدو ان الحياة المتحضرة التي قدمتها له البغي كانت حياة غنية ، فيستجيب مباركاً عملها . فالدور الذي يلعبه شمش وتأثيره في انكيدو يؤكد على أهمية انتصار العقل وقيمه .

أما عن الطور الديونسيوسي فيرى مئير أن اللوح السابع من «ملحمة كلكامش» قد كرس برمته لتصوير حزن كلكامش ومدينة أوروك . ويؤكد مئير ان المرثية الطويلة التي يتلوها كلكامش تعبر عن انتهاء آخر اثر للطور الابولوني وبداية الطور الديونسيوسي ، إي طور الشقاء الشعوري . ويصف شمش هذا الشقاء قائلا: «سيحمل كلكامش علامات الشقاء في جسده وسيتردى ثياب الكلاب جائلاً في البرية» .
ان سمة الشقاء والمعاناة الحادة والتحولات الفيزيائية التي تظهر على جسد كلكامش ، اثناء الرحلة ، تماثل شقاء ديونسيوس وتمزيق الجبابرة لجسده ـ ـ وهذا الشقاء الديونسيوسي كان ، برأي نيتشه ، أول شكل تراجيدي عرفته اليونان . كما ان تمزيق الجبابرة لديونسيوس يقدم مجازا يعبر عن عمق التحول في حياة كلكامش الذي خلع ثيابه الملكية وهجر المدينة ، وبذلك فقد كل ما يشده إلى المجتمع والثقافة . ان هذا التحول في حياة كلكامش هو عودة إلى نمط حياة انكيدو السابقة على اقترانه بالبغي . وعند دخول كلكامش البرية واتحاده بها تشبه معاناته بمعاناة قرينه انكيدو . ان رحلة كلكامش هذه هي رحلة جوانية تنتقل صاحبها إلى ماوراء حدود الثقافة ، حيث لا تقيم اعتباراً لموازين العقل والمنطق . هذه التجربة الشعورية تهدم كل ما هو كائن ومتعارف عليه ، باحثة عن جوهر دائم لا يمكن العثور عليه الا وراء الظواهر . وكالبطل التراجيدي يعيش كلكامش الاخطار ويجازف بالكل ليربح الكل . لذلك في كل هذا يماثل كلكامش الاله ديونيسيوس ، ولكن ، كما يعود البطل التراجيدي إلى حواضر العقل في التراجيديا الاغريقية، هكذا يعود كلكامش إلى حاضرة شمش ـ ممثل العقل .

ان أثر الملحمة استمر فاعلا في اداب الشرق الاوسط حتى بعد سقوط الامبراطورية البابلية عام 539 قبل الميلاد . طبعا ليس هناك ادلة حسية على وجود نصوص للملحمة كانت في متناول الشعوب التي عاشت في المرحلة الهيلنية ، ولكن ورود معلومات مشتقة من الملحمة دليل قاطع على انها كانت حية ومختزنة في ذاكرة شعوب الشرق الاوسط التي حافظت عليها وتناقلتها عبر العصور ، إلى أن تلقفها بعض الكتاب وادخلها في كتاباتهم مع بعض التحوير الناتج عن تغير في اللغات والرؤية الثقافية . فلقد عثر بين مخطوطات البحر الميت ، التي اكتشفت في بداية القرن العشرين ويعتقد انها تعود الى القرنين الثاني أو الاول قبل الميلاد ، على كتاب بالارامية بعنوان ” ـ كتاب اينوخ ـ “ ورد فيه كلكامش وكأنه أحد الجبابرة . كما جاء ذكر همبابا ( الوحش الذي قتل كلكامش وانكيدو ) في “ كتاب الجبابرة “ الذي ألّفه ماني في القرن الثاني بعد الميلاد . وبعد ان وضعت ستيفني دالي بحثا مطولاً وموثقاً عن علاقة ملحمة الرافدين بـ “ الف ليلة وليلة “ ، وأكدت فيه عن تأثير “ ملحمة كلكامش “ على “ حكاية بلوقية “ التي هي جزء من كتاب «“ ليلة وليلة “ .

ومنذ ان تم اكتشاف “ ملحمة كلكامش “ في نهاية القرن التاسع عشر عادت من جديد لتلعب دوراً هاماً في تراث الانسانية ، مفجرة طاقات ابداعية في مجالات شتى كالرواية ، والمسرح ، والموسيقى ، والفنون الجميلة . فكما نشأت قصة كلكامش في احضان الواقع الاجتماعي لـ سومر للتحول ، في تفاعلها مع واقع آشور وبابل ، إلى ملحمة متكاملة فنيا وفلسفيا ، لتحرض على ولادة ملاحم أخرى لدى شعوب أخرى ، هكذا صار دور الملحمة حديثاً . اذ اخذت الترجمات الحديثة توحي للكتاب والفنانين والموسيقيين الغربيين بابداع روائع جديدة . ان الملحمة التي تحرض على الخلق باستمرار لابد أن تمثل بذاتها عالما ينطوي على قوى ديناميكية ذي ميزة ازلية تخترق حدود الزمان والمكان ، لتتجلى ابعادها في ظواهر تاريخية وثقافية مختلفة توحي للكتاب والفنانين باعادة صياغة مداليلها وفق اشكال جديدة متلازمة وشروط حياتهم الاجتماعية والثقافية والفكرية . وهذا يفسر ما قاله البرت شوت بعد ترجمته لـ “ ملحمة كلكامش “ إلى الالمانية . اذ كتب يقول : “ ان سعيك للحصول على معنى الملحمة هو كسعيك لفهم العالم “ . أي أن معنى “ ملحمة كلكامش “ ، وان ظل الكتاب والفنانون نيحاولون استكنائه ، الا انه سيظل ذلك المعين الذي لا ينضب ولا تعرف له حدود ….

About عضيد جواد الخميسي

كاتب عراقي
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.