سعيد رهنما
إن الجميع على علم بالمواقف الثورية لماركس وحمايته وحماسته للثورات التي اندلعت في عام 1848 وبعدها كومونة باريس، وليس هناك أي شك بإن البناء النظري لماركس قائم على التحول الثوري. ولكن ماركس وأنجلز وخاصة في سنوات آواخر عمرهما، طرحا موضوعة الانتقال السلمي. كما يمكن ملاحظة عناصر من منطلق إصلاحي في آرائهما منذ بدء نشاطهما السياسي.
مارکس وإمكانية الإنتقال السلمي
هناك نماذج غير قليلة من كتابات ماركس حول هذه القضية، ومن ضمنها مؤلف “الصراع الطبقي في فرنسا” الذي كتبه عقب ثورة عام 1948-1949، و مؤلف “18 برومير لوئيس بونابارت” الذي كتبه بعد سنة من انقلاب بونابارت، و “الحرب الأهلية في فرنسا” الذي كتبه بعد كومونة باريس، والرسائل المتعددة التي وجهها إلى کوغلمان و لیبنيخت (الأب)*، وفي مقدمته للطبعة الثانية الألمانية
ويلهلم ليبنيخت
للبيان الشيوعي في عام 1872، وسأشير إلى جميع هذه النماذج في مجال آخر. وفي جميع هذه المؤلفات، لا يؤكد ماركس على الثورة فحسب، بل عند تحليله لأسباب فشل ثورتي 1848 و 1871، يؤكد بقوة وبشكل حاسم على الفعل الثوري وضرورة “تحطيم جهاز الدولة”. ففي “18 برومير”، الذي يعد أجمل وأعقد مؤلفات ماركس السياسية، وبعد الإشارة إلى النمو الواسع للدولة الفرنسية بعد الثورة الفرنسية، وما تلاها في عهد نابليون الأول والمراحل الثورية اللاحقة، يتحدث ماركس عن ” أن جميع الثورات راحت تستكمل جهاز الدولة، بدلاً من أن تحطمه”**. وبعد مرور عشرين سنة وبعد كومونة باريس، أعلن ماركس في رسالة له إلى کوغلمان ( عضو الأممية الأولى وعضو الحزب الاشتراكي الألماني، والصديق الحميم لماركس وأنجلز):”لقد أعلنت في 18 برومير في فرنسا، أنه سوف لا تنتقل الماكنة البيروقراطية ـ العسكرية للدولة، خلافاً للسابق، من يد إلى أخرى، فهذا الجهاز سوف يدمر، وهو شرط تمهيدي لكل ثورة شعبية واقعية في
كومونة باريس – 1871
القارة الأوربية”. وفي الرسالة نفسها يلوم ماركس الكوموناريين ويقول “كان عليهم التوجه مباشرة إلى فرساي….ولكنهم تجنبوا اندلاع حرب أهلية”. ويعود ماركس في مقدمة الطبعة الألمانية الثانية للبيان الشيوعي الصادر في عام 1872، ليستخلص نتائج “الحرب الداخلية في فرنسا”ويقول:”إن الطبقة العاملة لا تستطيع السيطرة فقط على جهاز الدولة القائم، وإخضاعه لأهدافها”. ولكن من
میخائیل باکونین و کارل مارکس
المثير أن ماركس استطاع ماركس في السنة نفسها (1872) إخراج باكونين بعد انعقاد مؤتمر لاهاي للأممية الأولى وأشار في خطاب له في أمستردام:” …. إننا نتقبل حقيقة أن المؤسسات والأعراف والتقاليد تختلف من بلد وآخر. وإننا لا نتجاهل واقع أن العمال في بلدان كأنجلتره و هولندا و…، بإمكانهم بلوغ أهدافهم بالطرق السلمية”. بالطبع يشير ماركس أيضاً إلى أن العمال في غالبية البلدان لا يمكنهم بلوغ أهدافهم إلاّ باللجوء إلى “العنف”. ويشير ماركس في مكان آخر في عام 1878 ويقول:” لو أخذنا مثال انجلتره أو الولايات المتحدة، حيث توفرت الظروف للعمال في هذين البلدين أن يحرزوا على الأكثرية في البرلمان، واستطاعوا التحرر من قيود القوانين والمؤسسات التي تحرمهم من التنمية، ولكن لا يمكن بلوغ هذه المرحلة إلاّ في حالة نضوج المجتمع وتنميته بحدود كافية”. ويشير ماركس بشكل صحيح إلى :”أن الحركة السلمية يمكن لها أن تشق طريقها في حالة مقاومتها لكل ميل يسعى إلى إعادة النظام القديم، وبذلك تتحول إلى حركة عنفية، وعلى سبيل المثال الحرب الأهلية في أمريكا أو الثورة الفرنسية”.
في عام 1880، وجّه ماركس رسالة إلى “هنري هايندمان”***( مؤسس أول حزب اشتراكي في انجلتره” قال فيها:”…..لا توجد حاجة إلى ثورة انجليزية،
هنري هايندمان
ولكنها محتملة. فإذا ما تحول التطور الحتمي إلى ثورة، فإن كل من الطبقة الحاكمة والطبقة العاملة على السواء يتحملون الخطأ. وكل مكسب تكسبه الطبقة الحاكمة سلمياً ولكن عبر ممارسة الضغط، وإذا ما أصاب الضعف الطبقة العاملة أكثر فأكثر، فإن ذلك يعود إلى أن الطبقة العاملة الانجليزية لم تحسن الاستفادة من قوتها ومن الحريات المتوفرة لها قانونياً. في ألمانيا، عرفت الطبقة العاملة منذ البداية أنها لا تستطيع الخلاص من شر الاستبداد العسكري إلاّ عن طريق الثورة. وفي الوقت نفسه، أدركت الطبقة العاملة أن القيام بمثل هذه الثورة، وإن نجحت في البداية، فلا يكتب لها الاستمرارية بدون التنظيم المسبق وكسب المعرفة والقيام بالتصدي للدعاية الموجهة ضدها”.
إن ما يثير الانتباه هو موقف ماركس من زعماء التيار الماركسي الثوري للاشتراكية الفرنسية وزعماء حزب العمال الفرنسي “جول كسد” و “بول لافارك” (صهر ماركس) عند تدوين برنامج الحزب في عام 1880. فقد أعتقد “كسد” أن القسم المتعلق ببرنامج “الحد الأدنى” هي أصلاحات وبمثابة فخ لحرف العمال عن الراديكالية”، وأكد كسد على أن رفض الاصلاحات من شأنه “تحرير العمال من الإصلاحية”. وقد أدان ماركس موقف كسد ولافارك بسبب عدم إدراكهما لأهمية النضالات الإصلاحية، واصفاً كلامهما كمجرد ثرثرة ثورية فارغة
(revolutionary phrase-mongering)،
مستخدماً كلمته المعروفة” إذا كان هؤلاء ماركسيين، فإنني لست ماركسياً على الإطلاق”. وقد تضمنت مقدمة البرنامج التي أملاها ماركس الجملة التالية:” يجب على البروليتاريا الاستفادة من كل الوسائل، ومن ضمنها الاقتراع العام، وتحويلها من أداة للخداع إلى أداة للتحرير”. وهنا يشير ماركس من جديد إلى أن الانتخابات هي “أداة للتحرير”.
وهناك مثل مهم آخر أشار إليه ماركس في عدد من رسائله، ومنها الرسالة التي وجّهها إلى دوملا نیو ون هویس في عام 1881، حيث استخدم ماركس الجملة التالية حول كومونة باريس خلافاً لوجهة نظره السابقة حولها، ويقول:” أن الكومونة هي انتفاضة مدينة، ولم تكن اشتراكية على الإطلاق، ولا يمكنها أن تكون كذلك. ولو وجدت ذرة من العقل السليم لدى الكومونة لاستطاعت التسوية مع فرساي لصالح جميع أفراد الشعب، وهو الشيء الممكن عمله في ذلك الزمن”.
هذه الأمثلة هي نماذج أخرى طرحها ماركس في أوج حياته، وتحتل أهمية للغاية. بالطبع يمكن عند التدقيق في مؤلفات تلك المرحلة، العثور على مواقف مزدوجة تجاه قضية الانتقال السلمي والثوري. ففي “البيان الشيوعي” على سبيل المثال، وعلى الرغم من إصلاحية “الاشتراكية المحافظة”، جرت الإشارة إلى ما يلي:”يعلن الشيوعيون في كل مكان عن دعمهم لكل حركة ثورية ضد النظام الاجتماعي والسياسي القائم”، ولكن البيان يستطرد “لا يمكن بلوغ هدفهم(العمال) إلاّ باسقاط النظام الاجتماعي الموجود عن طريق العنف”، وهو تعبير عن مواقف متفاوتة. ومن الممكن ملاحظة التأييد الذي يبديه ماركس لأي مساعي للعمال من أجل تأمين مصالحهم الشخصية “بشكل قانوني”، مع التأكيد على ” أن الشيوعيين في كل مكان يسعون إلى انتصار (البروليتاريا) في الكفاح من أجل الديمقراطية”(البيان الشيوعي). وتشير هذه الجملة إلى الثورة العمالية وإلى الديمقراطية، ويمكن أن يجري تفسيرهذه الجملة بأشكال متفاوتة ومتناقضة، خاصة وأنه يشير إلى أن ” الخطوة الأولى للثورة العمالية هي تولي البروليتاريا موقع السلطة الحاكمة وإحراز النصر في النضال من أجل الديمقراطية”. إن أنجلز الذي يُعد أحد محرري “البيان الشيوعي”، يشير في مقدمة “النضال الطبقي في فرنسا” الصادر عام 1895، وبعد أن يعرج على تجارب الانتخابات في ألمانيا وفرنسا واسبانيا وسويسرا، إلى أن “البيان الشيوعي” قد أعلن أن الانتصار في الانتخابات العامة، أي الديمقراطية، هو أهم مهمات البروليتاريا المناضلة”.
إن أهمية المرور على وجهات النظر هذه، دون الدخول في التفاصيل، هي أنها تؤكد على أن ماركس تبنى كلتا وجهتي النظر الإصلاحية والثورية، خلافاً لوجهات النظر التي روّجها الروس بعد ثورة اكتوبر. وكما أشرنا إلى الاقتباسات السابقة، فإن ماركس ميّز بين انجلتره والولايات المتحدة اللتين تتمتعان بنظام انتخابي، وبين دول القارة الأوربية اللاتي لم يتطور فيها حق الاقتراع العام أو أنها كانت ترزح تحت أنظمة استبدادية ديكتاتورية. وعلى هذا الأساس يغدو من الواضح أن أهم الشروط التي تمهد الطريق السلمي هي وجود نظام حق الاقتراع العام، وبدرجات متفاوتة أو أن يتخذ الصيغة القانونية في غالبية دول العالم الآن. إن القضية الأساسية لبلوغ الديمقراطية هي إزالة كل الموانع أمام إجراء انتخابات حقيقية وكسب آراء الأكثرية “وتبديل الديمقراطية من أداة للخداع إلى أداة للتحرر”.
معضلات الطريقين
إن ما يثير الحزن هو أن اليسار الاشتراكي خاض النضال من أجل التقدم والعدالة الاجتماعية بنحو يفوق أي تيار آخر في العالم، ولكن على الرغم من هذه التضحيات الجسام، فقد لحق الفشل بكل من الطريق الإصلاحي والطريق الثوري. فمن جهة انحدرت الثورة الروسية والألمانية والصينية إلى طريق المتاهة، ومن جهة أخرى ابتعدت التيارات الإصلاحية الاشتراكية القائمة عن الهدف الاشتراكي وسارت على درب اليمين. وتصبح القضية الرئيسية التي تواجهنا اليوم هي البحث عن الأسباب والبحث عن الطريق، السلمي أم الثوري، الأكثر ملائمة وانطباقاً مع التغييرات الجذرية والظروف الدولية الراهنة، والذي يتمتع بالفرصة الأكثر للنجاح.
إن البحث لا يدور حول صحة أو خطأ الثورة، لأن مجموعة من العوامل الموضوعية والذاتية الداخلية والخارجية هي التي تسبب اندلاع الثورة ضمن شروط معينة في أي بلد. كما أن البحث يدور حول هل أن أية ثورة اشتراكية تنوب عن الطبقة، وهل تستطيع أو هل تسنح لها الفرصة في تنفيذ وعودها، أو أن تتطور الأوضاع بالضد منها. عند البحث في موضوعة الثورة، كما أشرت في مقالتي، يجب أن نميز بين أنواع الثورة. ففي العالم المعاصر، إضافة إلى الثورة الماركسية “القائمة على الحركة الواعية للأكثرية الساحقة” أو الثورة ” الهادئة” لغرامشي، والثورات الأخرى المفاجئة التي تتزعمها الأقلية بالنيابة عن الشعب، فهناك نوعان آخران يمكن أن نلاحظها في كلتا الظاهرتين. هناك ثورة تجري عن طريق الديمقراطية والانتخابات، مثلما حدث في غواتيمالا تحت قيادة جاكوب
جاكوب آربنز وقرينته أيفو موراليس
انقلاب عسكري ضد حكومة سلفادور آليندي الديمقراطية في شيلي بدعم من المخابرات المركزية الأمريكية
آربنز**** ، أو في شيلي تحت زعامة سلفادور آليندي، واللتين أجهضتا بعد التدخل الأمريكي، وفي فنزويلا تحت زعامة شافيز وفي بوليفيا تحت زعامة موراليس*****، هاتان الثورتان اللتان مازالتا قائمتين رغم المؤامرات الأمريكية. لقد جرت في هذه الدول تغييرات أساسية وهيكلية بعد إحراز النصر في الانتخابات. كما جرت ثورات رجعية، بغالبيتها في الدول التي تضم أكثرية من المسلمين تحت قيادة الأصوليين الذين استولوا على السلطة.
وينبغي التأكيد على أن الثورات التي تعتمد على الأكثرية غير الواعية محكومة بالفشل، لأن الثورة السريعة التي اندلعت نتيجة لأزمة أو حرب وتسليم زمام الأمور إلى أقلية، لا تستطيع أن تجد حلولاً اقتصادية وسياسية واجتماعية سريعة في ظل فوضى الأجواء الثورية، كما ليس بإمكانها أن تعطي أجوبة على توقعات الأكثرية المحرومة، وأن تشل ردود أفعال الأعداء في الداخل والخارج، فإنها تضطر إلى إرساء ديكتاتورية جديدة من أجل الحفاظ على استمرار سلطتها. إن استقرار الديكتاتورية وفقدان الديمقراطية يشكلان أكبر مانع أمام تقدم أية ثورة اجتماعية حقيقية تسعى إلى إجراء تغيرات هيكلية في الميادين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
إن نماذج الثورات الروسية والصينية معروفة للجميع، ولكنني أود الحديث عن نموذج الثورة الألمانية التي اندلعت في عام 1918-1919، وهي غير معروفة للكثير من القراء. لقد حدثت هذه الثورة في بلد احتضن كبار الشخصيات اليسارية في تاريخ العالم؛ بدءاً من ماركس ومروراً بـ بيبل وليبنيخت (الأب والأبن) وبرنشتاين وكاوتسكي وزيتكين وهيلفردينغ ولوكسمبورغ وآخرين، وقاد الكثير منهم الحركة في مرحلة الثورة الألمانية. لقد ضم الحزب الاشتراكي الألماني قبل الحرب قرابة مليون عضو. كما كانت ألمانيا من الناحية الموضوعية، احدى أكبر الدول الصناعية في العالم. وشاركت في الثورة جمهرة كبيرة ومنظمة من عمال الصناعة وأسسوا “المجالس العمالية”(رات). ومع سقوط الأمبراطورية الألمانية بعد الحرب، استلم الاشتراكيون السلطة في اليلاد، ولكن الثورة فشلت. فلماذا؟ لقد أدان جناح السبارتاكيين والشيوعيين جناح الاشتراكي الديمقراطي بتهمة النزوع إلى اليمين، كما أدان الجناح الاشتراكي الديمقراطي الجناح الشيوعي متهماً أياه باليسارية. ومن سخرية القدر أن الطرفين كانا على حق. بالطبع لا يتسع المجال المحدود هنا في البحث في أسباب فشل هذه الثورة والثورات الأخرى، وسنتناولها في مقالة منفصلة.
کلارا زيتکین و روزا لوکسمبورغ
كانت أمام هذه الثورات فرصة أكبر لاستقرارها في بلد واحد، إلاّ أنها أخفقت. إلاّ أنه في العصر الحالي ومع عولمة كل أبعاد الرأسمال، وحيث تواجه الثورة موانع أكثر بكثير من الموانع السابقة، فليس هناك أية فرصة للنجاح سوى في الخيال. إن عولمة الرأسمال وتعاظم قوة معسكر الرأسمال مقابل قوى العمل، كما أشرت في مقالتي السابقة، خلقا قيوداً كثيرة على هذا النوع من الثورات، وسأكتفي بسرد بعض الأمثلة.
لنفترض، مجرد افتراض، أن تياراً ثورياً اشتراكياً استلم السلطة في بلد ما (لقد استنتجت بالطبع في مقالتي السابقة أنه من غير الممكن حدوث تلك الفرضية لأسباب موضوعية وذاتية، ولكن من الممكن افتراض ذلك). ومن حيث الأساس، فإن أول خطوة يتخذها النظام الجديد هي تحويل الملكية إلى “ملكية اجتماعية” أو “ملكية اشتراكية” على كل وسائل الانتاج أو الجزء الأساسي منها. ولكن لنكن على يقين بأنه قبل اتخاذ مثل هذا الإجراء، سيلوذ حجم كبير من الرأسمال “بالفرار” من البلاد. وهذ ما يخلق قيوداً أكثر على توسيع الانتاج والخدمات والتوزيع العادل للثروة.
ومن ناحية التركيب الطبقي، فإن المجتمعات الراهنة تختلف عن مجتمعات أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حيث نواجه طبقة متوسطة جديدة واسعة تعمل في أجهزة الدولة وفي الشركات الكبرى والمتوسطة للقطاع الخاص، ونظراً لمستوى تعليم أفراد هذه الطبقة ومكانتهم الاجتماعية فإنهم يسيطرون على المهن الحساسة في قطاع الدولة وفي القطاع الخاص. إن أية دولة اشتراكية جديدة تستلم السلطة من شأنها أن تتعرض إلى الاهتزاز السياسي المصيري في حالة أهمال المطاليب المُكلِفة لهذه الطبقة، مما لا يدفع وسط واسع من هذه الطبقة إلى الوقوف بوجه النظام الجديد فحسب، بل يؤدي إلى”هجرة الأدمغة” أيضاً. ومن ناحية أخرى، فإن الاستجابة لمطاليب الطبقة المتوسطة ستخلق قيوداً أكثر على طريق تأمين مطاليب الطبقة العاملة والفلاحين والعاطلين عن العمل. ولذا فإن الحل الوحيد هو اتخاذ الموقف “الأمثل” في الاستجابة للمطاليب المتضاربة للطبقة المتوسطة الجديدة والطبقة العاملة وبقية الشغيلة، وهذا ليس بمقدور أية ثورة سريعة.
وفي مجتمعات أخرى، يواجه قوى اليسار والتقدم خطراً آخراً هو تعاظم حضور الثوريين الأصوليين، الذين يستغلون الأزمات السياسية والاقتصادية واعتقادات أكثرية أفراد الشعب، ويسعون إلى القفز على السلطة السياسية. وهكذا، فما دامت القوى التقدمية غير قادرة على طرح البديل السياسي الجديد لاستلام السلطة بدعم من الأكثرية، فستتعرض الثورة إلى الخطر. وهناك نماذج كثيرة لا نحتاج إلى سردها.
أما العامل الآخر، فهو التدخل الخارجي الذي كان له دوراً مهماً في تاريخ كل الثورات، ولكن هذا الدور أصبح أكثرر أهمية بعدة مرات وبوسائل أكثر تعقيداً. إن أحادية القطب الواحد الذي تتمتع به الدولة الكبرى الولايات المتحدة، مع حلفائها الأوربيين وشيوخ النفط في الخليج، خلق إمكانيات واسعة لقمع وحرف الحركات التقدمية عن مسارها. والآن، وبما أن الثورات السريعة محكوماً عليها بالفشل، فما هو البديل، خاصة وأن الإصلاحات الاشتراكية الديمقراطية في تراجع، وتتجه في بعض الأحيان صوب سياسات الليبرالية الجديدة. فجميع هؤلاء الاشتراكيين الديمقراطيين وضعوا على الرف حلم الانتقال إلى الاشتراكية، ووضعوا نصب أعينهم فقط هدف إصلاح الرأسمالية. ويمكن الإشارة بهذا الصدد إلى مثال السويد. فالحزب الاشتراكي الديمقراطي السويدي الذي اتبع في عقد العشرينيات من القرن الماضي سياسة اشتراكية قائمة على “اشتراكية المصادر الطبيعية والبنوك والنقل والاتصالات”، فإنه اضطر في عقد الثلاثينيات إلى إعادة النظر بهذه السياسة واعتمد على سياسة التدرج؛ أي التوزيع العادل للقوة الشرائية، والإصلاح الجذري للنظام الضريبي، جنبا إلى جنب مع التركيز على دعم حقوق الملكية والقطاع الخاص وخفض العجز في الميزانية. ومع الانتصار الذي أحرزته الليبرالية الجديدة في عقد الثمانينيات، تراجع هذا الحزب والأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوربية الأخرى عن مواقفهم السابقة، واعتمدوا سياسة “الليبرالية الاشتراكية” وفي بعض الأحيان “الليبرالية” بدون الاشتراكية. ولم يكن انشقاق الجناح اليساري وتشكيل حزب منفصل بمعزل عن تسريع هذه العملية. وسأسعى إلى تناول هذا التراجع في مقالة أخرى. ولكن الأسباب التي أدت إلى ذلك هي تعاظم قدرة الرأسمال العالمي وسهولة حركة وانتقال الرأسمال من جهة، ومن جهة أخرى ضعف النضال في معسكر العمل وما آلت إليه التيارات الاشتراكية الديمقراطية.
بالطبع من اللازم أن نأخذ بنظر الاعتبار هذا الواقع، فعلى الرغم من يمينية كل التيارات الاشتراكية الديمقراطية وسلطة الليبرالية الجديدة، والهجوم الواسع على دولة الرفاه وتعمق انعدام المساواة، فإن الكثير من السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي أرسيت في السابق ما زالت قائمة، ولم تستطع أكثر الحكومات يمينية أن تلغي الكثير من المكتسبات وسلبها من أكثرية قوى العمل وعائلاتها. وهذا يعود إلى استمرار نضالات النقابات العمالية رغم قلتها، وبسبب المنافع التي حصل عليها الرأسماليون من هذه المكاسب أيضاً. والآن فلم تعد الدول ذات السوابق الاشتراكية الديمقراطية، بل أن جميع الدول التي تتمتع بمستويات أعلى من “دولة الرفاه”، وعلى الرغم من تقليص الخدمات الاجتماعية، فإن الدولة مازالت تحافظ على أعلى مستويات التأمين الاجتماعي. ويمكن مشاهدة أعلى مستويات التأمين الاجتماعي وأعلى مؤشرات التنمية البشرية في العالم وأقل التفاوتات في المداخيل بين المجموعات المختلفة في هذه البلدان بالذات. وكنموذج على ذلك التقرير الذي نشره بنك المعلومات الخاص بالنفقات الاجتماعية في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية
(OECD, Socx database).
ففي دول الاتحاد الأوربي تبلغ النفقات الاجتماعية للدولة، ومن ضمنها التقاعد والرعاية الصحية وحماية العاطلين عن العمل والسكن وحماية العائلة وغيرها من النفقات 10% من الناتج القومي الاجمالي في عام 1960 في هذه البلدان، وأزدادت هذه النفقات الاجتماعية لتبلغ قرابة 25% من الناتج القومي الإجمالي في عام 2012. وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار النفقات الاجتماعية للقطاع الخاص، وهو بالطبع لا يشكل إلاّ جزءاً صغيراً ( باستثناء أمريكا وإلى حد معين في هولندا)، فإن هذا الرقم سيزداد ويبلغ 35% في فرنسا و 32% في كل من الدانيمارك والسويد وبلجيكا وألمانيا. وتقف هذه الدول في مرتبة أعلى المستويات في العالم في “مؤشرات التنمية البشرية”
(HDI index)
في ميادين التعليم والصحة والمداخيل. أما في مجال الثروة، وحسب مؤشر “جيني”
(Gini)
الذي يعالج انعدام المساواة في مداخيل السكان (فكلما يكون الرقم أقرب للصفر فهو دليل على ارتفاع نسبة انعدام المساواة، وكلما يكون أقرب إلى 100 تزداد نسبة المساواة)، فيشير هذا المؤشر في هذه البلدان وبعد التراجع في السنوات الأخيرة وزيادة مؤشر عدم المساواة فيها إلى أنها مازالت تشغل أفضل المواقع. فعلى سبيل المثال تحتل دول مثل الدانيمارك والنرويج والويد والنمسا وألمانيا المرتبة بين 24 إلى 28، ودول مثل فرنسا وبلجيكا وانجلتره المرتبة بين 32 إلى 34. وفي قطاع التعليم، يشير رابط “بيسا”
(PISA)
الذي يقدم معلومات حول مستوى معلومات التلاميذ في سن الخامسة عشر في بلدان العالم في ميدان الرياضيات والعلوم كل ثلاث سنوات، بأن هذه البلدان تصنف في عداد المجموعات التي تشغل أعلى المراتب. وبدون شك أن السوابق الاستعمارية والاستعمارية الجديدة والامبريالية لهذه البلدان كان لها تأثير سلبي على عدد من البلدان في مجال تحسين الوضع الاقتصادي والارتفاع بمستويات المعيشة، ولكن البحث لا يدور حول جذور ثروة الأمم، بل لتبيان استمرار دولة الرفاه، بالرغم من التراجع الذي حصل في العقد الأخير.
على أي حال، فإن هذه البلدان على الرغم من المشاكل التي تواجهها، فإن هناك فرصة أفضل أمامها للانتقال من الرأسمالية وإرساء بناء سياسي ديمقراطي ومستوى أعلى من الرفاه الاجتماعي إن حالف التوفيق قوى اليسار ونضال أنصار الاشتراكية. إن بعض أنصار الثورات المفاجئة يدّعون بأن تحسن ظروف العمال، وخاصة في البلدان التي يشارك فيها العمال باتخاذ القرارات، أو الديمقراطية الصناعية، من شأنه أن يشيع “التساوم الطبقي”، مما يحرف العمال عن النضالات الأساسية. هذا النمط من التفكير بقدر ما هو غير منطقي، فإنه بالقدر نفسه يُطرح الأمر بالمقلوب. إنهم يعتقدون بأنه من أجل تعميق راديكالية العمال يجب أن نسعى إلى جعل ظروف العمل ومداخيل العمال أسوأ! وهذا يذكرني بموقف ماركس من “كسد” واعتراضه على ” الكلام الثوروي” الذي اشير إليه آنفاً. وفي الحقيقة أنه مع التحسن النسبي في وضع العمل وحياة العمال والطبقة المتوسطة، فإن الكثير منهم سيتوجهون صوب النظام الحاكم مطالبينه بحفظ الوضع القائم، بل وتعميق مكتسباتهم. وهنا يحتل دور المثقفين العضويين ووسائل نشر الوعي التابعة للتيارات السياسية اليسارية أهمية استثنائية.
إن الثورة الاجتماعية بمشاركة الأكثرية الواعية هي عملية طويلة الأمد قائمة على التعليم والتنظيم والنضال الذي لا رحمة فيه من أجل استقرار الحريات السياسية والديمقراطية، وتحسين ظروف قوى العمل وفرض التراجع على الرأسمال والحكومة الرأسمالية. ويحتاج العمال من أجل حيازة الوعي إلى التنظيم المستقل، ولا يمكن أن يتحقق هذا التنظيم المستقل بدون الديمقراطية، ولا تتحقق الديمقراطية بدون النضالات العامة التي تتجاوز الأطر الطبقية. وإن هدف الاشتراكية الديمقراطية الراديكالية هو عبور هذا المسار.
ويجب الإشارة إلى الفرص الجديدة التي تواجه القوى التقدمية، إلى جانب الأخذ بنظر الاعتبار القيود الجديدة التي فرضتها العولمة على قوى العمل وأنصارها. فاليوم، ينتشر شعار المطالبة بالعدالة والحرية والديمقراطية بشكل لم يسبق له مثيل وأضحت مطاليب عامة. وبالاستفادة من الثورة الكبرى في مجال المعلوماتية، فإن الحكومات الرجعية والقمعية المحلية والقوى الأمبريالية على حد سواء تعاني من مشاكل حادة. وتناضل الحركات الجديدة المستندة إلى اتحاد عمل القوى التي تتجاوز الأطر الطبقية والمتكونة من الحركات العمالية والنساء والطلاب وأنصار حماية البيئة على المستويين المحلي والعالمي، من أجل نوع من “الثورة الهادئة” ولكن المتواصلة ، هذه الثورة التي تسري في النضال الجاري الآن في كل مكان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ويلهلم مارتين فيليب كريستيان ليبنيخت( 1826- 1900)، اشتراكي ديمقراطي ألماني، وأحد مؤسسي الحزب الاشتراكي الديمقراطي، عمل على الربط بين النظرية الماركسية الثورية مع التطبيق والنشاط السياسي العلني. وفي ظل قيادته، انتقل الحزب من منظمة صغيرة لتصبح أكبر حزب سياسي ألماني في ذلك الوقت. إنه والد كل من كارل ليبنيخت وثيودور ليبنيخت.(ع.ح.)
** يمكن مراجعة الأرشيف الانترنتي لآثار ماركس وأنجلز
***هنري مايرز هايندمان (1842-1921) كاتب انجليزي وسياسي، ومؤسس الفدرالية الاشتراكية الديمقراطية والحزب الوطني الاشتراكي. في انجلتره.(ع.ح.)
**** جاكوب آربنز غوزمان( 1913-1971)، ضابط غواتيمالي من أصول سويسرية، سياسي تقدمي وانتخب كرئيس للجمهورية الغواتيمالية عبر انتخابات ديمقراطية في عام 1951. اتبع سياسة اقتصادية واجتماعية تقدمية، وأمم الشركات الاحتكارية الأمريكية، مما أثار حكام الولايات المتحدة ضده، وأدى ذلك إلى قيام المخابرات المركزية بالتآمر ضده والإطاحة به في عام 1954.(ع.ح.)
***** إيفو موراليس ولد في 26 أكتوبر عام 1959، رئيس بوليفيا . وهو أول رئيس منتخب عبر انتخابات ديمقراطية في تاريخ أمريكا اللاتينية من أصل الهنود الحمر ، وينتمي إلى الحركة الاشتراكية الذي قام بتأسيسها، ومنحدر من عائلة من المزارعين البسطاء.(ع.ح.)