الأب جورج مسّوح: النهار
يتبنّى المسيحيّون، أو معظمهم، تدخّل بعض الميليشيات المذهبيّة في سوريا بذريعة أنّها، كما يزعمون، عبرت الحدود الشرعيّة ما بين البلدين كي تقاتل الجماعات التكفيريّة قبل أن تصل إلى لبنان. وإذا ما انتقد أحدهم هذا التدخّل يُخرج هؤلاء من جعبتهم الجواب ذاته: “لو لم يذهب هؤلاء إلى سوريا لكانت الجماعات التكفيريّة صارت عندنا، في عقر دارنا”.
لا يعنينا، هنا، التحليل السياسيّ أو العسكريّ لهذا النوع من التدخّللأنّه، أصلاً وفصلاً، غير شرعيّ وغير قانونيّ. هو تدخّل يشبه سواه من انخراط الميليشيات التكفيريّة التي أتت من كلّ أصقاع الدنيا في الحروب السوريّة. هو يشبه التدخّلات العربيّة والأجنبيّة في الحروب اللبنانيّة، والتي كان يستنكرها اللبنانيّون. ثمّة مواطنون سوريّون عديدون لا ينتمون إلى الجماعات التكفيريّة ولا يؤيّدون أعمالها، هم ضدّ هذا التدخّل اللبنانيّ “الاستباقيّ” في الوحول السوريّة…
بيد أن ما يعنينا، هنا أيضًا، إنّما هو هذه الذهنيّة المسيحيّة التي تتوق إلى زمن نظام “أهل الذمّة”. أمّا “أهل الذمّة” فاصطلاح لا يذكره القرآن الذي ترد فيه عبارة “أهل الكتاب”، أي اليهود والنصارى والصابئون والمجوس(سورة الحجّ، 17). فيما يخصّص الفقه الإسلاميّ، في مذاهبه كافّة، بابًا خاصًّا بأصول التعامل مع “أهل الذمّة” القاطنين في رحاب الدولة الإسلاميّة.ويتوسّع هذا الفقه في الحديث عن “الجزية”،وهو لفظ يَرد مرّةً واحدة في القرآن (سورة التوبة، 29)، التي يتوجّب على “أهل الذمّة” أداؤها لقاء بقائهم في دولة الإسلام وحمايتهم وعدم التعرّض لهم. وقد فُرضت الجزية خلال حقب عديدة من التاريخ الإسلاميّ على “أهل الكتاب”، كما كُتب العديد من المؤلّفات الفقهيّة عن تفاصيل الجزية وتفرّعاتها.
تروج في الأوساط المسيحيّة، علنًا، الدعوة إلى الامتنان من التدخّل الميليشياويّ في سوريا، لأنّ هذا التدخل “يحمي” الوجود المسيحيّ في سوريا ولبنان والعراق ! يتكلّمون عن حماية تؤمّنها الميليشيات، مع واجب تأدية الشكر والامتنان لها لحُسن صنيعها. هذه الذهنيّة، ذهنيّة الخضوع والدونيّة واستجداء البقاء بأيّ ثمن، ليست سوى تعبير عن قبولهم بأن يكونوا أهل ذمّة لدى حماتهم. صحيح أنّ الجزية لم تُفرض إلى اليوم على العموم، لكنّ بعض الناطقين باسم المسيحيّين إنّما يؤدّونها مواقف سياسيّة داعمة لأوليائهم “وهم صاغرون”.
المسيحيّون ناضلوا منذ القرن التاسع عشر كي لا يظلّوا تحت حماية المسلمين. زمن حماية جماعة لجماعة أخرى ينبغي أن يولّي إلى الأبد، ليحلّ مكانه زمن الدولة المدنيّة التي تحمي جميع أبنائها مؤمنين من جميع الديانات والمذاهب، وغير مؤمنين، إذ إنّ الدولة لا شأن لها بمعتقدات الناس الدينيّة. كما أنّ التاريخ، بحقبه كافّة، خير دليل إلى أن لا شريك للمسيحيّين في هذه البلاد سوى المسلمين بمذاهبهم كلّها.
لقد جرّبنا في لبنان حكم الميليشيات و”حماية” كلّ واحدة منها لقطيعها الطائفيّ، وشهدنا فشل هذا النوع من الحمايات. لذلك لسنا نؤمن بسوى حماية “الدولة المدنيّة” بكلّ ما تعنيه هذه العبارة من معنى لجميع المواطنين من دون استثناء. أمّا إذا كان ثمّة خطر قد يصلنا من خارج الحدود، فلا يحقّ لسوى الجيش اللبنانيّ أن يتولى القتال ضدّ المعتدين، بل بالأحرى هو واجب الجيش الأساسيّ. أمّا إذا لم يكن الجيش جاهزًا لهذا الأمر، وتفويض هذا الأمر إلى ميليشيات مذهبيّة، فبئس لبنان بقادته السياسيّين كافّة، من أعلى الهرم إلى أسفله، من هذه الحال التي نحن فيها.