يُحزنني أنني من جيل لم يعرف الدولة العربية المستقلة. لقد شهدت أُفول وبروز إيران، وشهدت أُفول وبروز تركيا، وشهدت قيام إسرائيل واحتلال العالم العربي، ولم أشهد دولة فلسطينية مستقلة حتى الآن. كان الاحتلال الأميركي بالقوة، فصار بالتمني. وكانت مصر دولة تصنع سيادتها بنجاح، فقامت في وجهها أشباح سيناء المتنقِّلة. وكانت سوريا «قلب العروبة النابض»، فأصبحت قاعدة روسية في البحر، وطلعات أميركية في الجو، وحلفا مع إيران ليست هي الفريق الأول في عقده. وفي التسعينات، تنبأ برنارد لويس بأن «العراق» سوف يصبح ثلاثة عراقات. فشتمناه على أنه صهيوني. وانتقدت يومها «دار رياض الريس للنشر» لأنها أصدرت «تنبؤات حول مستقبل الشرق الأوسط» بالعربية. وأنصح السياسيين الذين لم يقرأوه بقراءته، ولو بعد فوات الأوان. أما الذين قرأوه، فأتمنى عليهم قراءة ثانية.
لماذا؟ لأن لويس وضع كتابه استنادا إلى الوقائع العلمية. ليس في الكتاب الصغير خطاب واحد. أو تهديد واحد. أو «هلِّلي يا عروبة». أو تسخيف لأحد، كل ما فيه قراءة علمية لمنطقة معقدة تعتبر الحقائق افتراء والعلوم اعتداء.
وكم شتمنا «صراع الحضارات» والفكر الاستعماري، مع أن مؤلفه قال لنا شيئا واحدا: إن الحضارات سوف تتصادم فيما بينها. وإلى الذين كتبوا المطولات في رفض نظرية صامويل هانتنغتون يرجى، على وجه السرعة، متابعة أخبار سوريا والعراق وليبيا واليمن وشمال لبنان وشرقه، وتصريحات المطرب فضل شاكر في عين الحلوة، إضافة إلى المتفرقات. في كل مكان.
هناك عشرات، أو مئات الشركات، التي ترفع يافطة «مركز أبحاث»، معظمها مؤلف من رجل واحد عاطل عن العمل، أو يعمل صباحا في مفرزة صوتية ما. مراكز الأبحاث في الغرب قليلة العدد، لكن هذا القليل يصنع سياسات الدول الكبرى، ويتكهن بـ«صراع الحضارات» قبل ثلث قرن من وقوعه.
هذه الفرق الصوتية تؤدي بنا إلى لجّة واحدة. وتمهد الطريق أمام جحيم له عدة مداخل ولا مخرج منه. هذا ما يعرف بالكابوس. لكن الفرق أن ملايين الأيتام والمشردين والجائعين والأذلاء والمهانين ليسوا في منامنا، بل في يقظتنا. وليسوا في ليلنا، بل في نهارنا. وننصحكم بقراءة الأعداء، لأنهم لا يستطيعون أن يكذبوا على شعوبهم.