الشرق الاوسط
في الصراع الدائر للاستيلاء على مدينة القصير بريف حمص، بين ثوار سوريا المدافعين عن المدينة من جهة، وكتائب الأسد وحزب الله من جهة ثانية، أعلن الثوار أنهم قبضوا على مجموعة من «الحوثيين» تقاتل مع الحزب على الأرض السورية! ونحن نعلم منذ قرابة السنوات العشر، أن الاستنفار الإيراني الذي تسبب به الغزو الأميركي للعراق (بل والاستعداد له)، اقترن بمحاولة تعميم تجربة حزب الله في مشارق العالم العربي والخليج. وإبان ذلك الوقت (أو بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000) رأينا في لبنان عشرات من الشبان والكهول اليمنيين والخليجيين والعراقيين، يأتون إلى ضاحية بيروت للتحشيد الآيديولوجي، وانتقاء العناصر التي تعود للعمل في البلدان التي أتت منها، والأخرى التي ترسل إلى سوريا وإيران للتدريب العسكري بحجة الإعداد والاستعداد للاستمرار في مناضلة إسرائيل والولايات المتحدة. وهكذا فإن ما تحدث عنه بعض المسؤولين العرب عام 2004، وما قاله ولي نصر في كتابه: «صحوة الشيعة» (2006 – 2007) عن وجود «هلال شيعي» أو «عالمية شيعية»، لا مبالغة فيه على الإطلاق. وبالطبع والطبيعة فإن التحشيد ما كان ليحصل أو لينجح تحت شعار «مكافحة إسرائيل» لأنه لا مواجهة بين الشيعة وإسرائيل باستثناء جنوب لبنان – وقد تراجعت المواجهة الواقعية هذه بعد عام 2000. ففي التربية الداخلية لعناصر حزب الله وفيلق القدس، حديث مستمر عن تهديد السلفيين للشيعة (الذين سماهم حسن نصر الله أخيرا: التكفيريين)، وعن أن الصراع الاستراتيجي هو بين الإسلام (الذي تقوده إيران) والولايات المتحدة. وإذا قيل في حلقات الدرس (كما أخبرني شاب بحريني عام 2005) إن العرب سبق أن قاتلوا ضد إسرائيل. فالجواب أن العرب اليوم هم أحد ثلاثة فرقاء: الفريق الخاضع والمتعاون مع الولايات المتحدة وإسرائيل، والفريق غير المعني بشيء، والفريق الجهادي الذي يناضل مع إيران وحزب الله مثل الجهاد الإسلامي وحماس! وهناك فريق رابع ما ذكره آيديولوجيو الحزب ومربوه، هو فريق الإسلام السياسي، المكون من الإخوان المسلمين وأشباههم، وإخوان مصر بالذات. وهؤلاء كانوا يقيمون علاقات مع طهران ومع مفوضها بالمنطقة حزب الله، نكاية بالأنظمة السائدة وبحجة أن «الحل الإسلامي» واحد وإن تعددت مداخله!
إن إيران اليوم في موقف يشبه الموقف الذي كانت عليه إبان غزو العراق عام 2003. فالدخول الأميركي إلى العراق عنى تحديا كبيرا وفرصة كبرى في الوقت نفسه. كان التحدي ظاهرا في إحاطة الولايات المتحدة لها من كل ناحية، وكانت الفرصة ظاهرة في إمكان وراثة أميركا بالعراق وغيره. فالأميركيون قصيرو النفس، وسرعان ما سيرغبون في الانسحاب. وقد حصل ذلك بالفعل، وقامت إيران بعدة أمور لإثبات تأهلها للوراثة، ومن ذلك الحرب على إسرائيل عام 2006. وعلى الطريق وخلال تلك التجاذبات وبعدها جمعت كتائب الإسلام السياسي باعتبارهم جزءا من الغنيمة التي وردتها لها الأنظمة العسكرية والأمنية أو الولايات المتحدة، التي وضعت في خدمتها أيضا ليس أفغانستان والعراق فحسب؛ بل وجزءا من «القاعدة» بقيادة أيمن الظواهري. إن ما فعلته الثورات العربية، وبخاصة الثورة السورية، أنها جردت المشروع الإيراني للسيطرة والاستيلاء والتقاسم مع أميركا وإسرائيل – من كل أقنعته. وبذلك استحال عليه استخدام التنظيمات السنية المقاتلة علنا، كما استحال عليه الحصول على تأييد تنظيمات الإسلام السياسي لموقفه مع النظام السوري علنا أيضا. بيد أن إيران المتغلغلة في أوساط الإسلام الجهادي، والآخر السياسي؛ استطاعت حتى الآن التعطيل والشرذمة. فمن الذي يعرف على سبيل المثال موقف تنظيم الجهاد الإسلامي من الثورة السورية؟ ومن الذي يعرف موقف حركة الإخوان المسلمين بمصر من التدخل الإيراني بسوريا؟ وعلى أي حال فإن الحركة الإيرانية اليوم بالمشرق العربي والخليج هي حركة شيعية بحتة، وفيها تنظيمات مسلحة أو غير مسلحة، وهي تدار دينيا وسياسيا من إيران مباشرة، في حين تدار التنظيمات المسلحة ومنها حزب الله من جانب الجنرال سليماني قائد فيلق القدس. وقد اجتمع حول بلدة القصير وتحت راية حزب الله مقاتلون من العراق واليمن وإيران وغيرها. وقد عللوا ذلك طبعا بالدفاع عن مقام السيدة زينب، وعن نظام الممانعة، وعن اللبنانيين في سوريا. وما بقي في النهاية غير سبب واحد: القتال من أجل مشروع الاستيلاء ومناطق النفوذ في المنطقة!
لقد كنت مثل عرب كثيرين، نعتبر أن إيران مهتمة بالاستيلاء على العراق، وأنها تريد من وراء حزب الله إزعاج إسرائيل وأميركا من أجل التوازنات ومناطق النفوذ، والتسوية بشأن «النووي». ونحن نعرف الآن، ومنذ قيام الثورات، أن إيران ترى من حقها الاستقرار في كل تلك البلدان، إما لأنها تمثل الشيعة، وإما لأنها تمثل النضال ضد إسرائيل، وإما لأنها تريد البقاء في كل تلك البلدان وكفى! ولدينا عوامل أخرى للضعف في مواجهة إيران غير عامل عدم المعرفة أو تأخر الإدراك للمشروع الإيراني، وهذه العوامل هي: الإسراع العربي في الاستجابة للتسوية مع إيران وغيرها، وميل الولايات المتحدة في عهد أوباما لعقد صفقات مع إيران على الرغم من التدخل في العراق وسوريا ولبنان، بل بسبب ذلك التدخل، والاستنزاف والتضييع الذي يتسبب به الإسلام السياسي باصطناع أهداف أخرى وهمية لدى إخوان مصر وتنظيمات إسلامية أخرى في الأردن والعراق.
إن خلاصة الأمر أنه ما عاد من الجائز غض الطرف، أو التماس المعاذير عن التدخل الإيراني من أجل التخريب والتدمير للاستمتاع بالاستيلاء بعد ذلك، وتعيير أميركا وإسرائيل بالهزيمة! فكأنما أميركا وإسرائيل هما اللتان تفقدان العراق وسوريا ولبنان، وليس شعوب تلك البلدان!
إن عرب المشرق والخليج جميعا مهددون بالتدخل الإيراني. وهم مهددون في الداخل بالتنظيمات التي أقامتها إيران، ومهددون من الخارج بالتنظيمات المسلحة مثل التي تقاتل الشعب السوري، وتتمركز في قلب لبنان. وقد نرى تنظيمات مشابهة على الحدود الأردنية أو التركية. كما أن التنظيمات ذاتها أو ما يشبهها حاضرة بالعراق واليمن. وليس لهؤلاء من يتصدى لهم غير دول الخليج، وفئات واسعة من المواطنين في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وهذه المقاومة للانسياح الإيراني الدموي تمتلك عدة مهام: الحفاظ بقدر الإمكان على التماسك الداخلي، ومكافحة العنف الذي ينشره النظامان السوري والعراقي، وحشد وسائل الدعم المدني لمنع الإيرانيين من الاستمرار في الشرذمة والتفتيت. وما أقصده بالحفاظ على التماسك الداخلي، أن المجتمعات العربية في البلدان الأربعة تعرضت لاستنزاف شديد، ونشر الإيرانيون في أوساطها الفتنة إلى جانب السلاح والأموال. والمطلوب دعم مؤسسات المجتمع المدني في تلك البلدان، كما ندعم الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية. لست أدري كيف يعود العيش الأخوي أو التعايش في الحد الأدنى. لكن فئات واسعة من الناس يجري اقتلاعهم من أرضهم في سوريا والعراق واليمن ولبنان. وينبغي التركيز على ثباتهم في الأرض والمرافق والمؤسسات. التهديد وجودي، وقد لا يعود التدارك ممكنا!
لا بد من دعم ثوار سوريا بالسلاح إلى جانب المؤن، وهو الأمر الذي يحصل وينبغي أن يزداد إلى حدود كبيرة، لأننا مهددون في أوطاننا ومجتمعاتنا ودولنا بالانقسام والتهجير والقتل والغلبة الطائفية والمذهبية.