يسألني هذه الأيام الكثير من الصحفيين عن دور قطر في ( تخريب) الثورة السورية ، تفوح من صيغة الأسئلة رائحة حملة اعلامية منظمة يستفيد منها تجار التحليلات والمقابلات (المأجورة من قبل المال السياسي ) ، الذي باعتقادي هو المسؤول الأول عن تخريب الثورات بل السياسة كلها ، بغض النظر عن هوية موظفه وهدف توظيفه ، ولأني أكره الافتراء وكذلك الإطراء ، لذلك لن أقول رأيي بل سأقدم شهادتي من دون غرض في هذا الموضوع الحساس الذي دفعنا ثمنه دما ودموعا .
منذ انطلاق الثورة ضد النظام لم تكن هناك نية حقيقية عند أي من الدول بدعم هذه الثورة لتنجح ، بل فقط ليستخدموها كأداة ضغط على النظام ، وعندما استمرت وامتدت صاروا يطلبون منا التحاور مع النظام أي وقف الثورة ، وعندما لم يفلحوا بدأ التآمر عليها ، فاخترع المجلس الوطني بهيمنة اخوانية واضحة ، بمساعدة دولية من فرنسا وتركيا وبريطانيا وقطر وأمريكا والسعودية ، وقد طلب مني عدة مرات السفير الأمريكي وغيره من السفراء الغربيين أن أتعاون مع الإخوان لكونهم منظمين ومسلمين معتدلين ، وحتى نهاية عام ٢٠١٢ لم يكن موقف قطر خارجا عن اجماع ما سمي أصدقاء الشعب السوري ، مع أننا كنا ننتقد دور وهيمنة جماعة الإخوان الذين تعمدوا افراغ مؤسسات الثورة من مضمونها، لاتاحة المجال لتنظيمهم الإمساك بكل شيء ، المال والدعم والتسليح وحتى القرار السياسي الذي بقي بيدهم وحتى الآن .في كل مؤسسات الثورة ،
ثم بدأ الخلاف القطري السعودي يلعب دوره في انقسام المعارضة ، وعند تشكيل الائتلاف كبديل عن المجلس ، وكان الهدف منه فصل الرقابة والتشريع عن الموضوع التنفيذي ، الذي يفترض أن تمسك به حكومة تمنع الفوضى في العمل العسكري والاغاثي والمالي والإداري ، لعبت قطر بالتشكيل ، وبعد أن كان مقررا أن يكون ٣٥ عضوا وجدناه ضعف العدد المتفق عليه ، حيث زادت حصة المجلس من ١٠ لثلاثين ، واخترعت كيانات وهمية مثل المجالس المحلية … وأضافت شخصيات وطنية محسوبة على تنظيمات مما جعل قرار الائتلاف بيد الإخوان مرة أخرى . ومصان بنظام داخلي غير مسبوق ، صاغه موظف مصري في مكتب الوزير . ولم يسمح لنا باقراره أو تعديله ، إلا بأغلبية الثلثين المستحيلة التحقيق . وأعاق الإخوان تشكيل الحكومة التنفيذية مدة أكثر من عام ، ثم لم يعطوها أي من الصلاحيات . رغم أنها تشكلت بصفقة بينهم وبين الجربا ممثل السعودية ، فكل عمل مؤسسي كان يعني خلعهم من السيطرة والتحكم وهذا جوهر خلافنا معهم .
بعد استعار نار الخلاف القطري السعودي ، وانفلات المنظمات المسلحة عن هيمنة المؤسسة السياسية المفرغة من المضمون ، صارت قطر تقدم المال لضباط بعينهم وتطلب منهم شراء ولاءات ، وهكذا شكلت الجيش الحر على شكل جبهات ، فردت عليها السعودية بذات الطريقة وشكلت مجالس عسكرية موازية … وهذا أول انقسام حقيقي للجيش الحر ، ولم تنجح هيئة الأركان التوافقية التي نتجت بعد اجتماع أنطاليا في توحيده، لسبب بسيط أن المال والسلاح لم يوزع عن طريقها حصرا ، ولم ننجح في الائتلاف بالامساك بالعسكريين تخت خيمة القرار الوطني . بل استبعدنا تماما عن الشأن العسكري . ، وانتهى هذا المسار بأن صارت الفصائل العسكرية ممثلا سياسيا تفاوض وتوقع اتفاقات وتتنعم بخدمات الفنادق بينما السياسيين يتفرجون …
قمنا بمحاولة لتوسعة الائتلاف أملا في كسر احتكار الإخوان للقرار فيه ، ومع أننا نجحنا في ذلك ، لكن الأسماء التي أضيفت بالتوافق بين قطر والسعودية كانت غير ذات قيمة وسهلة تغيير الولاء ، ولما كانت دول الخليج تكلف وكلائها بالمعارضة بتوزيع الهبات والمعاشات ، كانت قطر الأكثر كرما والأعلى عطاء، وهكذا استمر القرار لصالح الإخوان بالمال القطري حيث شهدت بعيني عملية شراء الأصوات في الائتلاف ، من قبل وكلاء قطر ووكلاء السعودية وكان هذا أكبر عملية تخريب في جسد المعارضة السياسي …وبعلم المسؤولين بكلا الدولتين .
لقد رفض المجلس الوطني ، وبعده الائتلاف مقترحنا بتشكيل صندوق وطني ، وحصر المساعدات والتمويل عن طريقه ، فسعينا لدى الأوربيين لتشكيل هيئة تنسيق الدعم ، كي لا يستخدم الدعم الانساني في شراء الولاءات السياسية والحزبية كما كان يفعل الإخوان ، لكن العاملين على تلك الهيئة سرعان ما سقطوا هم الآخرين في براثن الفساد الذي أعاد سيطرة الإخوان على عملها ، فبدأووا بطرد مسؤولي الرقابة الدوليين بحجة رواتبهم العالية ، فسهلوا توريط المشرفين على هذه الهيئة بملفات فساد وغيرها ، والتي تم استخدامها في عملية ابتزاز رخيص انتهت بالهيمنة الإخوانية على كل مفاصلها.
قطر منذ بداية الثورة تعمدت دفع رواتبعالية للكثير من القادة ، ولمعظم المنشقين ، وأمنت لبعضهم السكن والإقامة ، كما كان أعضاء الأمانة والرئاسة بالمجلس يتقاضون راتبا ضخما منها عن طريق الإخوان ، أو شخصيات مقيمة في قطر . واعتمد عدة مشايخ كبوابة لتوزيع المساعدات ، وما تزال الأموال تتدفق للكثير من القادة والسياسيين بشكل خاص وشخصي وبقدر الطاعة والولاء .
كان هناك تمويل سري ، وامداد بالسلاح للحركات الإسلامية الناشئة في هوامش الجيش الحر ، لكن قرار أمريكا بقطع الدعم عن المعارضة المسلحة بعد الاتفاق مع النظام على تسليم الكيماوي ، والذي كان شرطا سريا فيه فرضه الروس بحجة افساح المجال أمام النظام للتعاون ، جعل هذا القرار التنظيمات الاسلامية تهيمن وتسحب معظم المقاتلين لصفوفها ، خاصة بسبب استمرار قناة الدعم السرية لجيش الإسلام وأحرار الشام وجبهة النصرة وغيرها ، والتي لم تكن تمول من قطر لوحدها بحسب علمي واطلاعي مما سيمدد القرار الأمريكي بقطع الدعم بحجة التطرف.
صحيح أن تركيا لم تقدم دعما أو تسهيلات لغير الإخوان ، لكنها بالمقابل لم تعيق أو تضغط على غيرهم ، ولم نشعر بمحاولة تضييق علينا رغم نزاعنا العلني والمفتوح مع الإخوان … ليس لأنهم اسلاميين ، بل بسبب سلوكهم الهادف لاعادة انتاج نظام شمولي جديد لكن بقميص اسلامي ، وخطوطهم التي لم تنقطع مع النظام وإيران وحزب الله ، وعندما ذهبت للخارجية الفرنسية وعرضت عليهم مشاريع مفيدة جدا للثورة ، قالوا المشاريع ممتازة لكن يجب تنفيذها عبر الائتلاف ، وبعد شرحي لهم أن قرار الائتلاف بيد الإخوان الذين سيفشلون هذه المشاريع ويجيرونها لصالحهم ، أصروا أنهم لن يدعموا أي جهد خارجه أي بما معناه خارج سيطرة الإخوان وهذا كان نهاية عام ٢٠١٣ .
الاخوان اضطروا لاعتبار كل الجماعات الاسلامية جناحهم العسكري عندما فشلت تنظيماتهم الخاصة ( الدروع وحماية المدنيين ) فالسلفية الجهادية أثبتت تفوقها كآيديولوجيا ،وهيمنت بشكل كامل على العمل المسلح ، ولم تنجح هيئة الرياض في التخلص من هيمنة ذلك الحلف السلفي الإخواني رغم أن السعودية شكلتها بمزاجها و من دون معايير ، وبقرارها المستقل ، مما يجعلها مسؤولة حصريا عن كل ما تقوم به هذه الهيئة التي لم يطلب رأي الشعب السوري فيها ، ولم يفكر بذلك أصلا .
أخطر تحول جرى عندما بدأ الإخوان حوارا جديا مع إيران ، وعندما غيرت تركيا موقفها من روسيا خاصة بعد الانقلاب هناك ، فهذا قدم لإيران فرصة ذهبية لترسيخ احتلال سوريا بالتعاون مع تنظيم الإخوان الذي وعدوه بتسلم السلطة كما ذكر طيفور بمقابلته التلفيزيونية ، لكن مسار الأستانة لم يتقدم على خط التوصل لتوافق شامل يعيد انتاج النظام بالتحالف مع الإخوان ، فالروس شجعوا العلويين على الرفض ، وهكذا ساروا في مسار التقسيم والتقاسم بدل الحل التوافقي بينهم ، وجرى في سياق مسار الأستانة مجموعة هدن وتسويات شملت على تغيير ديموغرافي وتقاسم نفوذ واضحة الحدود عندما سلمت حلب للنظام بقرار سياسي ، مقابل اطلاق مقابل أمارة اسلامية في ادلب وعمليات شرقي الفرات وشمال حلب ، وإطلاق يد ايران في حمص ودمشق التي تسلم تدريجيا ويرحل سكانها …تباعا نحو الإمارة في الشمال . فالسعي لنقل الاسلاميين لإدلب ، وتشكيل امارة اسلامية فيها يجعل العلويين تحت تهديد خطر دائم يدفعهم لطلب الحماية الروسية . وهنا تتقاطع مصالح الإخوان وسياسات روسيا وإيران أيضا .
ولم ننجح بوقف هذا المسار الخطيرالذي سكتت عنه هيئة الرياض بأمر تركي قطري اخواني ، ولم تساعدنا أي دولة عربية ولا أجنبية ، بينما سارت قطر بدعم هذا الاتجاه علنا وبالمال ، والذي ظهر مؤخرا بصيغة اتفاق خفض التوتر الذي يكرس رسم الحدود التقسيمية ، وقبله اتفاق المدن الأربعة المشين الذي نفذ عملية تغيير ديموغرافي شملت هذه المدن الأربعة ، وهو جريمة حرب وضد الانسانية معا …
أخيرا دخلت أمريكا على خط تقاسم النفوذ وهي تحاول فرض منطقة نفوذ خاصة بها تشمل الشمال بالتعاون مع الكرد والبادية بالتعاون مع القبائل العربية … ليستعر التنافس على الجنوب وتسارع جحافل حزب الله للسيطرة عليه لاستخدامه كورقة ضغط في أي تفاوض سيجري بين الشركاء في احتلال سوريا .
أما عن المطلوب من أصدقاء سوريا الذين يحمّلون قطر والإخوان المسؤولية كلها ، فهو الكف عن تخريب الثورة وابتداع قيادات وهمية ، وسحب الثقة والاعتراف بما صنعوه من كيانات هزلية جلبت الخراب والإرهاب ، فسدت وأفسدت … فأول الخير هو كف الأذى، وبعده يجب مساعدة الشعب على انتاج مؤسساته وإدارة شؤونه ليكون شريكا حقيقيا في اعادة بناء سوريا التي ستطال لعنة الدماء التي سفحت فيها كل المتدخلين والمتساهلين والمتلاعبين ، وما يجري أخيرا من تطورات في المنطقة تدفعها مباشرة نحو الحروب الاقليمية والفوضى ليس إلا بداية تأثير هذه اللعنة .
هذه شهادتي والله خير الشاهدين . #للإطلاع