كانت المهمة الأولى لنظام البعث بقيادة حافظ الأسد تفتيت أي جماعة خارج نطاق هيمنة السلطة بشكل مباشر سواءً أكانت سياسية حيث استطاع ضرب الأحزاب القائمة حينها بما يسمى الجبهة الوطنية، أم كانت رياضية حيث أغلق عددًا من النوادي الأهلية بداية السبعينات، وحتى إن كانت اجتماعية حيث وصلت حي الدعارة في حلب الذي كان مشهورًا تحت اسم (بحثيتا).
وللدعارة أشكالٌ، أكثرها خطورة على البشر الدعارة الفكرية والثقافية التي تؤسس وتبيح الأنواع الأخرى الأكثر رواجًا.
والدعارة “الجسدية” في سوريا ممنوعة “حسب القانون” ويوجد شرطة خاصة تدعى بـ “الأخلاقية” لمكافحتها، وضبط الحالات المخالفة للقانون. وحسب القانون تُعَّد الدعارة جنحة يحاسب عليها بالحبس للفتاة ويكفي الرجل اعترافه أنّه دفع مالاً مقابل العمل كي لا يطاله القانون!
في السبعينات وبأمر رسمي أزيل حي “بحثيتا” في حلب وهو حي مرخص للعاهرات يعرف شعبيًا بالمحل العمومي، أمر بافتتاحه الوالي العثماني رائف باشا عام 1901. وأهل حلب يطلقون على زقاق العاهرات اسم “المنزول” نسبة للمضافة الموجودة فيه، بينما تعني الكلمة في باقي المناطق وخاصة الأرياف بيت الضيافة.. كما يسمونه أيضاً “كراخانه” وهو لفظ تركي يعني “البيت الأسود”. إزالة الحي أخفت أهدافًا وأعلنت أخرى، المعلن كان القضاء على الدعارة بصفتها أمر يعاقب عليه الشرع الإسلامي “والقانون”.. وللمحافظة على الأخلاق العامة واجتثاثًا “للرذيلة” من جذورها وتجميل وجه المدينة بنسف معلم مهم من معالمها، حي العاهرات وسوق الصرافين المجاور له والمقابل لساعة باب الفرج والذي كان يملك معظم محلاته تجارٌ من يهود حلب. وانتثرت فتيات المحل العمومي في أرجاء حلب، وغادرت أخريات إلى محافظات أخرى، فمنهن من ذهب إلى “البيت الأبيض” في دير الزور، ومنهن إلى محافظات أخرى.
الهدف الخفي يكمن في نظرية الانتثار التي تهدف إلى هدم أو نسف أو تخريب للجماعات المنتظمة ضمن منظومة معينة فكرية أو جغرافية أو غير ذلك.
هذا الحي كان في الستينات من القرن الماضي حيًا مغلقًا، على بابه الخارجي غرفة حراسة، يقوم الحارس بمراقبة من يدخل ومعرفة هويته وعمره، إذ كان ممنوعاً دخول الفتيان الذين لم يبلغوا الثامنة عشرة بعد!
التجسس على الزبائن
أدّى هذا التجميل إلى بعثرة فتيات الهوى– حزب البغاء كما نظرت إليه السلطة – وتمّ توزعهن على الأحياء وعملهن بشكل غير نظامي، بمعنى أنّهن لم يعدن يتبعن لفحص دوري إجباري في مديرية الصحة لأجل الكشف عن الأمراض السارية، ولم يعد لهن “بترونة”_ رئيسة حزب -والاسم مشتق من لفظ فرنسي يعني السيدة التي تدير مكان ما، ويقابله اللفظ العربي “قِوادة” بمعنى وساطة الفحشاء، والمقصود هنا أنّها تقود “فصيلاً” من العاهرات ولها لقاء قيادتها وتنظيمها لعمل الفتيات مقابلٌ مادي تأخذه من أجورهن، والرفيقة “البترونة” كانت تقوم بمهمة أكبر وأخطر من الإشراف على العاهرات وهي التجسس على الزبائن المهمّين عن طريق الفتيات اللواتي يخضعن لاستجواب رسمي بعد انفرادهن بالزبون. ولن يكون الأمر مستغربًا إذا عرفنا أنّ حارس مدخل بحثيتا في الستينات من القرن الماضي تابع لإدارة المخابرات ولمديرها “بدر” شخصيًا.
هدم الحي وانتشار الفتيات في الأحياء كافة، سياسة منظمة استهدفت توسيع رقعة التجسس واستبدال “البترونات” بالضباط مع المحافظة على نوع البضاعة المعروضة وجودتها.
وتزامن ذلك مع اشتعال الشارع بأحداث الإخوان المسلمين واجتياح حلب ومجزرة حي المشارقة الذي أزيل من الوجود فيما بعد. وقد كانت المهمة الأولى “للرفيقات العاهرات”مساعدة “الرفاق” الضباط في الحصول على معلومات حول النشاطات السياسية لطلاب الجامعات المنتشرين في الأحياء الشعبية. والرفاق الذين حملوا على عاتقهم كتابة التقارير التي تودي بكلِّ إنسان نظيف إلى الاعتقال أو التصفية، والذين عرفوا بأصحاب “الخطوط الناعمة”. لم يكونوا من المخابرات أو الضباط فقط، لأنّ حركة العهر لم تقتصر على بائعات الجسد والقوادين من الضباط ورجال المخابرات، بل كُرِّست بشكلٍ رسمي في مؤسسات الدولة عبر مخبرين متخصصين يشغلون وظائف ذات أهمية أو يكونون مجرد سعاة بسطاء وحراس وسائقين.
عمل النظام الحاكم على تفتيت المعارضة بالاعتقال والقتل، وتصفية بعض الرؤوس المفكرة بالاغتيالات، وكرّس بالمقابل سياسة “التحرّر” بدعوى العلمانية، وضرَبَ الفسادُ أطنابه في كلِّ المؤسسات وأولها المؤسسات الدينية التي يترأسها الآن مفتي الدولة “أحمد حسون” الذي قتل النظام أحد أولاده في بداية الثورة واتّهم الجيش الحر بقتله! وهو الذي هدّد أوربا بإرسال انتحاريين إلى كلّ مدنها إن هي تدخلت في سوريا وصدق!
كان الالتزام بدورات الصاعقة والمظلية والانضمام إلى معسكرات الشبيبة أمرًا لابدّ منه لكلّ الشباب؛ لأنّه يعطيهم امتيازًا استثنائيًا بإضافة علامات إلى معدلهم في الثانوية العامة يُمكِّنهم من دخول كلية الطب والهندسة، وهذا أدّى بطبيعة الحال إلى ظهور دفعات من خريجي الطب لا يفقهون شيئًا من الطب ويعملون على طريقة المنجمين إلى أن يثروا فيتحولون إلى رجال أعمال، ومقاولين وتجار بناء!
العهر الفكري
العهر الفكري لم يبدأ من المؤسسة التعليمية فقط، بل من مؤسسة الإعلام أيضًا يدعمها مؤسسة أرفع شأنًا، وهي اتحاد الكتّاب العرب الذي بقي علي عقلة عرسان يرأسه مدة ثلاثين عاماً حين كان مقره في دمشق قبل أن ينتقل إلى القاهرة، والذي ترأس فرعه في دمشق مؤخراً الدكتور “المخبر” نضال الصالح صاحب أكبر حصة في كتابة التقارير بأصدقائه من أساتذة جامعة حلب ومن الكتّاب والذي “ناضل” طيلة عقود للحصول على منصب “رئاسة قسم في الكلية أو وزير للثقافة أو مدير لدار الكتب الوطنية” أو أيّ منصب يستطيع من خلاله إطلاق مواهبه المكبوتة في هذا المجال ولم يفلح.
تصريحات مفتي الدولة وصوره مع المراهقة الروسية ماريانا ناموفا، وفي حفل تكريم ملكة جمال اللاذقية.. ورئاسة نضال الصالح لاتحاد الكتّاب، يؤكدان أنّ النظام لم يعد معنيًا بارتداء الأقنعة التي تخفي عهره بل أصبح يتفاخر به رسميًا.
* أديبة سورية المصدر: الجزيرة مباشر