ما عادت الدراسات القرآنية والإسلامية بالغرب الأوروبي والأميركي تتحرك في دوائر أكاديمية مغلقة. ففضلا على أنها تواصلت مع الحقول التاريخية والعلوم الإنسانية والاجتماعية؛ فإنها تواصلت من جهةٍ ثانيةٍ مع التخصصات الشرق أوسطية والاستراتيجية والسياسية. وصحيحٌ أنه ظلَّ هناك أكاديميون لا يكتبون إلاّ في تخصصاتهم الدقيقة، لكنّ معظم الدارسين يتناولون في بحوثهم كل ما يخطر بالبال وما لا يخطر هذه الأيام، ومن القرآن وأُصوله واستخدام المتطرفين له، وإلى السياسات الأميركية بالمنطقة ورؤية الإسلام!
ولأنني لاحظتُ هذا الامتزاج والاستخدام، وتأثيرات السياقات السياسية والثقافية الحاضرة فيهما وعليهما، فقد رأيتُ (لأنني قرأتُ ثلاثة كتبٍ في الدراسات القرآنية صادرة أخيرا) أن أكتب إيجازا في علائق الدراسات القرآنية والإسلامية بالموقف الراهن من الإسلام.
تأسست قراءات النقد التاريخي للقرآن والإسلام بأوروبا – على ما تقول الدارسة الألمانية أنجليكا نويفرت – في ثلاثينات القرن التاسع عشر على المناهج المستجدة في علوم الدين اليهودي. وانحصرت مهمتها تقريبا في تتبع التأثيرات اليهودية في القرآن والإسلام. ثم جاء جيلٌ آخر من المستشرقين المسيحيين، الذين انصرف كثيرٌ منهم لإثبات تأثيرات المسيحية في القرآن والإسلام. فالرواية الإسلامية التقليدية حول تلقّي الوحي وتدوين القرآن أو جمعه، ظلت مقبولةً في خطوطها الأساسية، لكنّ الاهتمامات تركزت على «تبعية» الإسلام لإحدى الديانتين. إنما منذ السبعينات من القرن العشرين، حدثت قطيعةٌ في هذا «التقليد» الذي كان يُظهر حيويةً وتوسيعا لآفاق القراءة للنص القائم. فقد ظهر فريقٌ يقول إنّ القرآن ما ظهر أيام النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولا دوَّنه عثمان، وإنما ظهر وتقونن عبر أكثر من مائةِ عامٍ بعد ظهور الإسلام. وقد كُتبت عشرات الكتب، وآلاف المقالات لإثبات ذلك، ولستُ هنا في معرض الردّ عليها، فقد ظهر خطرها وخطلها على مدى العقود الماضية. وإنما الذي ينبغي قوله إنّ عشرات الدارسين من الشبان والكهول ما يزالون ماضين من وراء وانسبورو وكرون في إنكار «أصالة» القرآن، وتكونه التدريجي حتى صار مصحفا! أمّا النزعة الأُخرى الداخلة في القطيعة، فقد ظهرت في ثمانينات القرن الماضي. وهي تذهب في اتجاهٍ معاكسٍ تماما، بمعنى أنّ أصحابها يقولون إنّ القرآن والإسلام ما ظهرا مع النبي، بل في الأزمنة الكلاسيكية السابقة على زمن النبي، التي تمتد من مائتين إلى ثلاثمائة سنة قبل ظهور الإسلام. وقد جاء النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه مبلْورين وجامعين لتلك الخطوط والمفردات والمصطلحات والعوالم الظاهرة من قبل، وقاموا بإنشاء المنظومة المتكاملة.
تقول هذه الفِرق كلّها، الرافضة للرؤية التقليدية الإسلامية في الأصل، إنّ «الإشكالية» في النبي محمدٍ (صلى الله عليه وسلم) وطبيعة دوره في قوننة القرآن، أو تحويله إلى نص رسمي معترف به من جميع المؤمنين. وظاهر البحوث أكاديمي ويهتم بهذه الظاهرة القديمة/ الجديدة التي تُسمَّى الإسلام. أما الواقع فهو أنّ هذه المهمة كانت لها أغراض نقضية أو تبشيرية عندما كان يُرادُ تطويع الدين في بلدان المستعمرات. واليوم ما تزال لها هذه الأغراض الراديكالية، بمعنى أنه يُرادُ استخدامها لمكافحة الإسلام الأصولي أو المتطرف، والمقصود به في هذا السياق دائما «الإسلام السني». فالذين يذهبون إلى أنّ القرآن والدين تكونا بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) (!) يعتبرون أنهما تطورا في بيئاتٍ منقسمةٍ دينية، وفي ظلّ سلطانٍ قاهر. ولذلك فإنّ الدين الإسلامي يميل دائما (بحسب وجهة نظر هؤلاء) إلى التشرذم والعنف، كما أنه يسعى للسلطة والغلبة لأنّ الدولة هي التي أنشأته!
وأما الذين يرون أنّ القرآن تكوَّن في الأزمنة الكلاسيكية السابقة على النبي (صلى الله عليه وسلم)؛ فيقولون أيضا إنه عرف تجربة الدولة منذ البداية، فهو دينٌ سياسي. ثم إنّ هذه المنظومة المجتمعة من أمشاج وعناصر سُرعان ما تنفجر عندما تتعرض لأي ضغط، وهو ما يحصل في الإسلام اليوم.
إنني لا أُناقش هنا الأُصول النظرية والتاريخية والنصية لهاتين المقاربتين أو القراءتين، بل أُناقش النتائج أو التفسيرات أو الاستخدامات الناجمة عن تلك الرؤى. وأولُ ما يُلاحَظُ في الحالتين أنّ الرؤيتين (رؤية النشوء ما قبل النبي، أو النشوء في الفترة اللاحقة) المقصودُ بهما أو عدوُّهما الرئيس إنما هو «التقليد» أو التجربة التاريخية والحوارية عبر التاريخ بين النصّ والجماعة. فلكلّ ذلك مساراتٌ وقواعد وأعراف، جرى تحطيمها من جانب الانشقاقات بداخل الإسلام، إما بحجة الاجتهاد أو بحجة استنطاق الكتاب والسنة بشكلٍ مباشر. فمفهومٌ أنّ الأُصولي لا يحب التجربة التاريخية للأمة، لأنه يريد العودة للأصل – إنما غير المفهوم هو لماذا يكره الدارسون الغربيون هذا «التقليد» الذي انصرفوا لتفكيكه ونفيه عبر أكثر من مائتي عام؟! وهم يريدون الآن القضاء على «مواريثه» بحجة أنها ما تزال حاضرةً في أفكار الأُصوليين وتصرفاتهم وحروبهم!
بيد أنّ هذا السبب الآيديولوجي أو التأصيلي وإن صحَّ، لا يفسِّر هذا العنف المنطلق باسم الدين، وسواء أكان مع التقليد أم ضده. بل هناك سببان آخران هما اللذان يقفان وراء الموجة الثانية من موجات «الإرهاب الإسلامي»، وهما: الإحياء الشيعي الذي يقابل الإحياء السني أو يتقابلان في الميدان لأول مرة. والمسألة الأخرى: السياسات الدولية، التي تحاصر المجتمعات والدول وتدفع باتجاه التأزم والفوضى. وعندما تحدث التمردات باسم الدين، ولكي «تتّقي الشرّ»؛ فإنها تعمل على اختراق تلك التنظيمات وتحويلها باتجاه خصومها وسواءٌ وعى قادة التنظيم ذلك أم لم يعوه. وهذا ما يحدث بوضوحٍ في سوريا والعراق واليمن اليوم، وربما في مواطن أخرى.
إنّ لدينا إذن هذا التلاعُب باسم الأكاديميا بأصول الدين وفروعه. ولدينا بعد هذا التلاعُب استخدام تلك النظريات في تعليل الظواهر المعاصرة، ولغير صالح الدين والمتدينين، ولدينا ثالثا استخدام تلك الأكاديميات المزيفة لتفضيل أصوليةٍ على أُخرى أو إثارة أُصوليةٍ على أُخرى.
بالأمس، جرى كشف حيثيات توجيه سياسي (= مبادرة الشراكة الشرق أوسطية) أميركي من العام 2010 بشأن «تغيير الأنظمة في الشرق الأوسط». وهو يتضمن ثلاث نقاطٍ تعيَّن موظَّف برتبة مساعد وزير لإنفاذها: دعم الحركات المدنية العربية الداعية للديمقراطية، ودعم حركات الإسلام السياسي غير العنيفة والتي تلتزم بما تطلبه السياسة الأميركية داخليا وخارجيا، والعمل على سحب العسكريين والأمنيين من السلطة وإدارة الشأن العام. وهكذا فإنّ «دوغما» الأُصوليات في القرآن والإسلام تتحول على أيدي الدارسين أو الاستراتيجيين إلى سياسات، تتلاءم والمصالح الكبرى لدول المنظومة الأطلسية. هل هذا الاستنتاج جديد؟ لا، ليس جديدا، إنما الواقع أنني ما توقعْتُ أن تكونَ «الصِلات» بين الدراسات القرآنية والإسلامية الكلاسيكية، والسياسات الدولية الحاضرة، على هذا القدر من المباشرة. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
نقلا عن الشرق الاوسط