ميخائيل سعد: زمان الوصل
كان عمي جرجي خبيراً في الفلاحة، يأتي إليه الفلاحون من قريتنا والقرى المجاورة كلما استعصت عليهم مشكلة يطلبون حلاً لها، علماً أنه لم يكن يملك أرضاً للفلاحة ولا زوجاً من البقر أو الحمير وهو أضعف الإيمان لمارسة الفلاحة. وعمي جرجي لم يكن يعرف القراءة والكتابة، وهو بالكاد كان قد حفظ عن ظهر قلب صلاة -أبانا الذي في السموات- ويحكي إن خوري الضيعة الذي كان يردد الصلاة أمامه كي يحفظها قد أصابه اليأس من إمكانيات عمي جرجي على الحفظ، فاستشاط غضباً أكثر من مرة وسب الدين أمام بعض اهل القرية ما خفف من احترام الناس له. ومما يزيد في الاستغراب أن حظوظ عمي جرجي، مع ذلك، كانت تنمو وتتكرس كخبير في الفلاحة مع الزمن، وكانت تلك السمعة الكبيرة تقف حاجزاً امام المشكك في خبرة الرجل.
خطر على بالي أحد الأيام، وكنت مراهقاً، أن أهجر حمص وصباياها، وأن أمضي صيفيتي في القرية، مسقط رأسي، يعني حيث سقط رأسي بمجرد خروجه من رحم أمي. ولما كنت بنظر أهل القرية ابن مدينة وأسكن فيها، فقد كانوا يعاملونني باحترام أكثر من احترامهم لشوفير البوسطة التي تمر مرة واحدة في اليوم باتجاه مصياف. واحترامهم لي لم يكن سببه كوني قد أنهيت الصف الأول في دار المعلمين وانتقلت إلى الصف الثاني عام ١٩٦٦، ولا بسبب ال(٨٠) ل س، راتبي الذي كنت أتقاضاه من الدولة لأنني طالب في دار المعلمين، وإنما لأنني ببساطة أسكن في المدينة، وكان هذا بحد ذاته يحيطني بسحر خاص، تكّون في ذهن الفلاحين عن المدينة والمعارف والقدرات العظيمة التي يملكها أبناء المدن مقارنة مع أبناء الريف، يكفي ذكر قصة الخبز الموجود في الأفران وسهولة الحصول عليه مقارنة مع عذابات المرأة في الريف كي تحضر الخبز للعائلة، بالإضافة للخرافات التي تنتشر بين الفلاحين عن المدينة، وكيف أن هناك دكاكين متخصصة، واحد للثياب وآخر للنجارة وثالث للحدادة، وهذه من الأسباب التي شجعت فيما بعد الريفيين على الهجرة للمدينة. وكان عمي جرجي من هؤلاء الفلاحين الذين يحترمون أبناء المدن أو سكانها، مثلي مثلاً.
كنت قد سمعت، كما غيري، عن خبرات عمي جرجي في الفلاحة، وكيف أصبح مرجعاً في هذا المجال، فقررت تتبع قصة شهرته وذياع صيته في قرى المنطقة. قصدته بعد ظهر أحد الأيام، وكان جالساً أمام داره، في ظل الجدار الوحيد، القريب من كنسية مار جرجس، فسلمت وجلست بقربه. سألني عن صحة والدي وبقية أفراد العائلة وعن سبب وجودي في القرية. فقلت له: لقد ضجرت من ضجة المدينة ومجاملات الناس لبعضهم وقررت أن أستفيد من جودي في القرية لقراءة بعض الروايات، والاستماع لقصص الناس هنا، ومنها رغبتي في معرفة قصة شهرتك كخبير في الفلاحة، وخاصة بعد أن قال لي أبي إنك لم تكن في يوم من الأيام فلاحاً، ليس تعففاً، وإنما لفقر الحال، وإن أبي يظن أنك لا تملك حتى هذا اليوم عدة الفلاحة مثل: المحراث والصمد والمساس واللبادة والشرع، هذا عداك عن الدواب، أكانت بقراً أو حميراً لاستخدامها في الحراثة، فإذا كان كلام أبي صحيحاً، فكيف أصبحت خبيراً في هذا المجال؟
أصلح من جلسته، شاداً ظهره إلى الجدار، مد يده ليصلح وضع لبادته على رأسه، وكأنه أحد المعارضين أمام كاميرا التلفزيون، ثم مد يده إلى جيب شنتيانه (سرواله) وأخرج علبة دخانه المعدنية، لافاً سيكارة حموي فلت، وضعها بين شفتيه، قبل أن يخرج قداحته الفتيل، المربوطة بدكة شنتيانه، ويشعل سيكارته، مج سيكارته، ثم سعل قائلاً: خرجت أحد الأيام من البيت صباحاً، أفتش عن أي شيء للأكل. مشيت قليلاً في زواريب الضيعة ثم توجهت إلى الحقول، فالموسم هو موسم الفلاحة ولا أحد في البيوت. وجدت (أبو حنا) وعائلته في حقلهم الكبير، والصراخ يعلو من هنا وهناك، فسلمت وجلست على أمل أن أتناول معهم كسرة خبز. كان أبو حنا وراء المحراث الذي يجره ثور وحمار، وما إن وصل إلى نهاية الحقل حتى علا صراخ الجميع إن الخط مائل، والمقصود طبعا خط الفلاحة، وليس خط المخبر، كاتب التقارير. لم يرد أبو حنا على صراخ العائلة وأمر دوابه بالدوران ليحرث خطاً آخر، عندها بأن العور والميل في الخط فتوقف الرجل وقام بتغيير الحمار، ووضع بدلاً عنه بقرة ضعيفة، فكانت النتيجة مشابهة: الخط دائماً أعوج. مرة جديدة قام أبو حنا، وهو يكفر، بتغيير البقرة الضعيفة بثور صغير العمر، وما إن بدا بالحراثة حتى بدا واضحاً ميل الخط باتجاه الثورالقوي الكبير، عندها وقفت صارخاً: يا خيي بو حنا الغلط من التور الكبير. توقف الرجل وقام بتغيير الثور الكبير واضعاً مكانه ثوراً صغيراً مثل الآخر، ثم تابع الفلاحة فكانت النتيجة سليمة وأصبحت الخطوط متوازية.
تابع عمي جرجي قائلاً، بعد أن جدد سيكارته وأشعلها بقداحته العجيبة: أكلت يومها حتى شبعت. وكنت كلما توقفت يلح أبو حنا علي كي أتابع الأكل وهو يقول: الغلط دائماً من التور الكبير. وذهبت مثلاً في القرية والقرى المجاورة. وبدأ الناس يتوافدون لاستشارتي في مشاكلهم الزراعية، حاملين معهم ما تيسر من المواد الغذائية، وكنت أتعلم من قصصهم، وأرويها لآخرين، فكان منها ما يصح ومنها ما يعطي نتائج سيئة، وفي هذه الحالة كان الناس أنفسهم يبررون لي الأخطاء وينسبونها إلى عبقريتي الخاصة التي تعجز عقولهم عن معرفة خفاياها. وهكذا بدأ الناس يطلبون مني التدخل في حياتهم الشخصية، من سيتزوج، ومن لم تحمل امرأته، ومن يمرض، وبدأت أعتقد أنني أعظم وأفهم رجل في القرية، إلى أن وصلت إلى السياسة، وهنا كانت الطامة الكبري. ففي عام ٦٤ جاء شخص غير معروف، إلى القرية وسألني عن رأيي فيما جرى في حماه من قتل للناس وهدم للجوامع، ولما كنت لا أعرف ماذا حدث هناك، فقد كررت جملتي الشهيرة، والتي كنت أستخدمها دائما عندما لا يكون عندي جواب مقنع، فقلت للرجل: الغلط مو من الناس، الغلط من التور الكبير. ذهب الرجل دون أن يقول شيئاً، ولكن بعد يومين جاءت إلى القرية سيارة جيب فيها ثلاثة رجال، أخذوني معهم إلى حماه، وسألوني عن قصة التور الكبير. حكيت لهم قصة الثور، ولكنهم لم يصدقوا إلا بعد أن حلفت لهم مليون يمين بالله والمسيح ومارجرجس أن هذا كل ما أعرفه عن القصة. أكلت بعض اللكمات قبل أن يتركوني، محذرين: إنني في المرة القادمة سأبقى طويلاً عندهم.
ختم عمي جرجي قصته قائلاً: يا بن أخي، نحن الآن وحدنا، تشهد الكنيسة على ما أقوله لك: دائماً الخطأ هو من التور الكبير، لأنه يريد أن يشد الأمور لجهته.
تذكرت شهادة عمي جرجي هذه الأيام، وقسمه قرب الكنيسة، أن الخطأ هو من الثيران الكبيرة أكانت في الكنيسة أم الجامع أم الدولة أم الاحزاب السياسية المعارضة والمؤيدة، وهم من يجب تغييرهم كي تستقيم الخطوط وتصبح متوازية.