نبيل عودة
بعد ان نجح موسى بإخراج شعبه من مصر، وشق البحر بضربة عصا، انطلق يدبُّ في الصحراء ساحباً وراءه 600 ألف عائلة كانت تعاني من العبودية في مصر الفرعونية، أي ما يقارب، أو يزيد… عن ثلاثة ملايين شخص يدبّون في صحراء ممتدة طولاً وعرضاً، لا يمكن تمييز اتجاهٍ محددٍ بما كان يملكه الإنسان في ذلك الوقت ويبدو ان الله كان غاضباً على شعبه أيضا، الذي أنقذه من فرعون والعبودية في مصر، الا انه فسق وابتعد عن تعاليم أبيه، فتركه يتيه أربعين عاماً عقاباً على انحرافه وفسقه… وقد أفشل الله موسى وكبار القوم في معرفة الطريق، غرق الشعب في الرمال المتحركة، يذهب في اتجاهات عدة، يعيد الكرة ليجد نفسه يدور في حلقات مفرغة، بدأ التذمر والشكوى وتحميل موسى المسئولية عن العذاب الذي تجاوز عذاب العبودية في مصر الفرعونية.
كانوا يلومون موسى على إخراجهم من عبودية فرعون الى الضياع في رمال سيناء الحارقة، بلا مياه وبلا طعام وبلا مشاغل تنتج الملابس ومزارع تنبت القمح والخضار ومراعٍ تنتج الحليب واللحوم والأجبان.. مع ذلك فالربّ لم يكن غافلاً عن شدة عقابه، لكن طرق الربّ غير مدركة للبشر، كما نقول في مثلنا الشعبي، يضرب بيد، ويلقى باليد الأخرى، فأرسل في ساعات الشدة المنّ والسلوى، وأرشد موسى لآبار المياه. لكن لأمر عظيم غير مدرك للبشر، لم يتسرّع في إرشاده إلى طريق الخروج من سيناء إلى الأرض الموعودة.. كانت له حكمته وخططه، فاستمر الضياع في الصحراء جيلاً وراء جيل… حتى صار الرضّع رجالاً لا يعرفون من أرض الله الواسعة إلا رمال الصحراء..
بمحاذاة جبل سيناء، بعد دعاء وابتهال من موسى وكبار القوم، أبرقت السماء وضوء عظيم جعل القوم يغلقون عيونهم اتقاءً لقوة إشعاعه، أوحى الرب لموسى أن يصعد الى قمة جبل سيناء، ليسهل الحديث معه بدون ضجيج التائهين والغاضبين وقادة الأحزاب التي بدأت تنتظم وتضع المطالب وتنظم التمرّدات وتضاعف الصعوبات أمام موسى الذي أُوكلت له القيادة من السماء، اذ لا يمكن التداول في القضايا الحارقة عن أوضاع التائهين في الصحراء أمامهم مباشرة، فالحديث عن إصلاح حالهم قبل الدخول الى ارض الميعاد يحتاج الى خلوة، والا.. لا أرض ولا ما يحزنون، يظلون في سيناء طعاماً للرمال. فلبّى موسى الدعوة وصعد متّكئاً على عصاه لمقابلة الرب..
على قمة الجبل لم يتأخر الرب، لم يعط لموسى حتى فرصة للراحة والتقاط أنفاسه، بادره فوراً بمجموعة من القيود التي لا بد ان يفرضها على شعبه اذا أراد هذا الشعب ان يحافظ على مكانته عند الرب. كان جلُّ الحديث عن إجراءات ربانية لا تقبل النقاش.. وقد أُعطي موسى نسخة تشمل الإجراءات والقيود التي يجب إتباعها.
عندما بدأ موسى يقرأ تفاصيل الإجراءات والقيود، اهتز جسده بشدة وانهار على الأرض، فوراً تحرك الإسعاف الرّباني في عملية إنعاش سريعة لتحسين وضعه الصحي ويواصل مهمته.
قال موسى:
– المغفرة ثم المغفرة.. أنا أعرف شعبي – شعبك، خبرتهم في الضياع الذي ألقيته علينا.. كان عقاباً لن يمحى من الذاكرة.. سنحفظه إلى أبد الآبدين ونجعل له أسبوعاً من كل سنة، لا نقرب الخمائر من مأكلنا، لكن رجائي أن تخفف عنهم لتسهل لي قيادتهم في هذه الظروف غير الإنسانية من الضياع الطويل، فأنت القدير في كل حين على فرض عقابك وإعطاء صفحك.. أما هذه القيود التي تقترحها فهي أصعب من الضياع في سيناء.. وانا أقترح، بإصرار لمصلحة الجميع، تخفيضها وتسميتها وصايا، على أن لا تتعدى الخمس وصايا، ليتصرف شعبك حسب نصوصها. لكن لا بد من تقليل القيود… إن كثرتها مدعاة للتمرّد والعقوق ونحن ننشد الإصلاح والتقويم..
الرب أصر في البداية ان تكون ألتقييدات أكثر شدة وأوسع نطاقاً. هذه هي طرق الرب التي لا يدركها البشر، لم يعترض على اقتراح تسميتها وصايا، لكن خمسة أقل من القليل.
موسى كرّر رجاءه الحار مستجديا الله ان تخفض القيود، لأن كثرتها يجعلها عديمة الفائدة ، وصعبة على الحفظ، تغري على التمرد والابتعاد والعقوق… وبالتالي سيخسر الله شعبه.. وأرفق موسى رجاءه بنوبة بكاء اهتز لها جسده.. فاستعد الإسعاف لجولة إنعاش جديدة.. ولكن مشيئة الله كانت ان يجعل موسى يواصل القيادة حتى أبواب كنعان.
كانت المفاوضات صعبة جداً واستغرقت اليوم بكاملة ولم يكن من وسطاء لتليين موقف أحد الجانبين. لكن خبرة موسى العظيمة في التفاوض مع فرعون نفعته في هذا المأزق.. وقد أصر موسى بشكل جعل الملاك المناوب يتساءل كيف اختار الرب موسى موفداً لشعبه وهو يتجرأ على مناقشة الرب والإصرار على موقفه؟ لكن الرب أخرسه برمشة عين رهيبة.. فالتزم الصمت النهائي..
بعد ان كاد النهار يمضي وموسى لا يكفّ عن الإصرار والتوسل والبكاء، تسوء حالته.. ثم تتحسن، مما اضطر الإسعاف السماوي للتدخل مرتين.
استمر رجاء موسى وإصراره حتى استجاب الرب لطلباته مشترطاً عليه إن تكون فترة تجريبية وأن الوصايا لن تكون أقل من عشر وصايا لا مساومة حولها.
نزلت حكمته بأن يستجيب لنبي شعبه ليرفع مقامه ومنزلته بين شعبه… وهكذا نزل موسى من الجبل وهو يحتضن لوحين من الحجر عرفا فيما بعد باسم الوصايا العشر.
كانت الجماهير محتشدة تنتظر على أحر من الجمر لتسمع ما أنجزه لها موسى، بل وبدأت بعض المراهنات بين بعض الحشود، اختلفت الأسباط قبل ان تسمع نتائج الاتفاق.. كان قادة شعب الله بأحزابهم وفرقهم المختلفة يلغطون وكلهم متخوفون من ان يقيد الله شعبهم بما لا طاقة لهم به.. فما اعتادوه، خاصة في ضياعهم الطويل في الصحراء، ليس من السهل تغييره.. وما اعوجّ في سيرتهم لن يصلح إلا مع جيل قادم اذا هم وصلوا الأرض الموعودة.
كان موسى ينزل على مهله ، بطيء الحركة نظرا لجيله ووعورة الطريق الجبلية ، إرهاقه الواضح من المفاوضات الصعبة ومما اعتراه من انهيار جسدي كاد يودي بحياته عدة مرات لولا الإسعاف الرباني السريع ومشيئة الله في علاه، أيضا مرهق من حمله الثقيل، اذ كان يحتضن الألواح الحجرية الثقيلة ويرفض ان يعطيها لأحد كي يحملها ويريحه من ثقلها.
عندما وصل الى حيث يحتشد شعبه ، اعتلى تلة رملية صغيرة وقال بلا مقدمات :
– يا ابناء الله ، مباركون انتم باسم الرب الى يوم القيامة .. بعد مفاوضات طويلة مضنية توصلت الى أفضل ما يمكن من أجلكم . لم يكن الوصول الى اتفاق سهلا.. ولذلك أقول لكم اني جئتكم بخبرين ، اولهما خبر جيد والثاني خبر سيء. اما الخبر الجيد فهو اني استطعت ان ألغي الكثير من القيود ، وأن أنزل الوصايا من عشرات كثيرة إلى عشر وصايا فقط …اما الخبر السيء ..
وهنا صمت موسى وأجال نظره بالجمهور شاعرا بتوتره الكبير.. ثم قال :
– الخبر السيئ هو ان وصايا الرب ما زالت تشمل منع الفسق.
nabiloudeh@gmail.com
-
بحث موقع مفكر حر
-
أحدث المقالات
-
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلاميةبقلم صباح ابراهيم
- ستبقى سراًبقلم عصمت شاهين دو سكي
- #إيران #الولي_الفقيه: تأجيل قانون العفة والحجاب… ما القصة؟!بقلم مفكر حر
- إشكالية قبول الأخربقلم مفكر حر
- موسم إسقاط الدكتاتوريات في #الشرق_الأوسط!بقلم مفكر حر
- ردود فعل مسؤولي #النظام_الإيراني على #سقوط_الأسد: مخاوف من ملاقاة نفس المصيربقلم حسن محمودي
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **بقلم سرسبيندار السندي
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **بقلم سرسبيندار السندي
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **بقلم سرسبيندار السندي
- ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.بقلم مفكر حر
- ** تساءل خطير وحق تقرير المصير … هل السيّد المَسِيح نبي أم إله وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- ابن عم مقتدى الصدر هل يصبح رئيساً لإيران؟ طهران مشغولة بسيناريو “انقلابي”بقلم مفكر حر
- ** ما سر تبرئة أل (سي .آي .أي) لبوتين من إغتيال نافالني ألأن **بقلم سرسبيندار السندي
- المجزرة الأخيرةبقلم آدم دانيال هومه
- ** بالدليل والبرهان … المعارف سر نجاح ونجاة وتقدم الشعوب وليس الاديان **بقلم سرسبيندار السندي
- رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسيةبقلم طلال عبدالله الخوري
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلامية
أحدث التعليقات
- منصور سناطي on من نحن
- مفكر حر on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- معتز العتيبي on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- James Derani on ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **
- جابر on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- صباح ابراهيم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **
- الفيروذي اسبيق on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- س . السندي on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- عبد الحفيظ كنعان on يا عيد عذراً فأهل الحيِّ قد راحوا.. عبد الحفيظ كنعان
- محمد القرشي الهاشمي on ** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسية
- صباح ابراهيم on ** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :