يُعدُّ تدمير منارة الحَدْباء بالموصل (شاهد الفيديو هنا: شاهد من الذي فجر منارة الحدباء في الموصل) يوماً مشهوداً (الأربعاء 21/6/2017)، يُضاف إلى أيام الجماعات، التي لا ترى قبلها ولا بعدها ماضياً ولا مستقبلاً، غير صناعة الموت والخراب. ألغى فقهاء الجماعات الزَّمن، فلا اعتبار لدمٍ ولا بناءٍ. ظن أصحاب فقه «سداً للذرائع»، والاحتساب، أن هذه الثَّقافة ستتوقف عند حفظ بيضة الدِّين، ولولاها لخلت الأرض مِن صلاة وصوم، لكنهم لم يدركوا أن الذَّرائعَ ولدت ذرائعَ، وفقههم أسفر عمَّن أتى بمَن لم يبقِ ولم يذر.
يعلم فقهاء القوى الظَّلامية أن المنارة لم تكن تقليداً من تقاليد عهد النُّبوة ولا الرَّاشدين، فأول منارة أو مئذنة شيدها والي مصر للأمويين مسلمة بن مخلد (ت62هـ)، العام (47-54هـ). فهو: «أول مَن أحدث المنار بالمساجد والجوامع» (ابن تغرى بردى، النُّجوم الزَّاهرة، والمقريزي، المواعظ والاعتبار). ولعله شيدها تأثراً بمنارة الإسكندرية، بمعنى أنها عند هذه الجماعات ليست مِن الأُصول، إنما فن مِن فنون الأصنام، فسهل عليها هدمها، مع أنهم أعلنوا خلافتهم مِن شبابيك مسجدها.
عندما تجرأ تنظيم «القاعدة» على هدم تمثالي بوذا (12/3/2001)، تحدث بعض الفقهاء والمتشددين، آنذاك، بأنهما مجرد صنمين، ربَّما أنفسهم الآن يسفحون دمعاً على هدم منارة مسجد مِن أقدم مساجد الموصل، فلم يحسبوا أن الأذى باسم الدِّين لا حدود له، مثلما أن قيام جماعة دينية على نهج سياسي لا تكف عن إيذاء الدِّين نفسه، فالأمر أمر المرشد أو الولي لا غيرهما، ولا أرى بين الجماعات الدينية السياسية معتدلاً ومتطرفاً، إنما هي درجات تتلو بعضها بعضاً.
نتذكر الفقهاء الذين احتجوا على السُّلطات السُّويسرية، في عدم موافقتها على تشييد المنائر، وفق استفتاء شعبي (2009)، هم أنفسهم باركوا لهذه القوى الظَّلامية أفعالها، وأعانوها بالفتاوى والخطابات الحماسية، مِن أجل قيام دولة الخلافة، وها هي تقوم بتجريد المساجد مِن المنائر، ناهيك عن شلالات الدَّم وكوارث التهجير والتَّشريد، وما حصل لمسيحيي وأيزيدي الموصل لا يحتاج إيضاحاً. ولعظمة الفعل لا تُحاسب وتُعذل الجماعة التي فَجرت المنارة، إنما يُحاسب ويُلاحق كلُّ مَن دعمها بفتوى وخُطبة ومال وعدة وعتاد.
في هذا المنحى كتب الإعلامي تركي الدِّخيل تحت عنوان: «قائمة الإرهاب.. زمن ما بعد التَّغطية: «لقد مرَّ زمن طويل، كان المُحاسب الوحيد على الإرهاب هو القاتل فقط، مِن دون إدراج المحرض على اللائحة، إذ المُحرض شريك بالقتل» (الشَّرق الأوسط: 13/6/2017). كذلك أن مسؤولية تفجير معلم حضاري، بحجم «الحَدْباء»، ومِن قبل آثار ما قبل التَّاريخ، لا يُسأل عنه المُنفذ فقط، بل المحرض مِن فقهاء الظَّلام وساسة الخراب.
يعود بناء جامع النُّوري لفترة الأتابكة مِن تاريخ الموصل، شيده السُّلطان نور الدِّين محمود بن عماد الدِّين زنكي (ت577هـ)، على أرض «خربة متوسطة البلد واسعة، وقد أشاعوا عنها ما يُنَفّر القلوب منها، وقالوا: ما شرع في عمارتها إلا مَن ذهب عمره… ووقف على الجامع ضيعةً مِن ضياع الموصل» (ابن خِلكان، وفيات الأعيان).
كان اسم الحَدْباء مِن أسماء الموصل العديدة، لاحتداب دجلةَ (الحموي، معجم البلدان)، شأنها شأن بغداد أخذت اسم الزَّوراء منه. فأُطلق الاسم على منارتها، وقيل إنها محدبة نحو الشرق.
إذا أعددنا السَّيد محمود شكري الآلوسي (ت1924) سلفياً، وتُعد الجماعات الجهادية نفسها سلفية أيضاً، مع إضافة الجهاد لاسمها، فإن الآلوسي قد أنقذ منارة «سوق الغزل» التَّاريخية وسط بغداد، عندما أشار مهندسون إنجليز بهدمها خشيةً من سقوطها، وما يسفر عنه مِن أذى للمارة (1918).
مهد الإنجليز لذلك بمقالٍ لأحد الأدباء في خطر المئذنة، غير أن صاحب الصحيفة ذهب إلى الحاكم البريطاني آنذاك، وحاول إفهامه أن لا خطر منها، لكنه لم يفلح معه، فذهب إلى الآلوسي، وأقنعه أن يذهب معه لمقابلة الحاكم لتأجيل هدمها، فتأجل لسنتين، حتى أتى مهندس فرنسي فعالج أمرها، وأبعد الخطر.
يقول أنستاس الكرملي (ت1947) في ما حدث: «هي اليوم قائمة على ساقها، كما كانت سابقاً، وتضحك مِمن حاول أن ينظر إليها نظرة شيخةٍ متغضنةٍ» (مجلة العرب، منارة جامع سوق الغزل، العدد الأول 1928). على ما يظهر أن منارتي الموصل وبغداد بلغتا من العمر أكثر من سبعة قرون، الأولى هُدمت، بعد أن حدب عليها الدَّهر كلَّ هذه السّنين، والثانية ما زالت شاخصةً، تترقب أحوال بغداد التي تتردى يوماً بعد آخر، فالظَّرف الذي اجتاحت به داعش الموصل، ومدت يدها إلى الحَدْباء، ما زال قائماً. معلوم، أن القوم سادرون بين جاهدٍ إلى التَّجزئة، وغارقٍ في محور الممانعة! خِلاف ما توقع لها مصطفى جمال الدِّين (ت1996): «بغدادُ لم يعد الزَّمان كأمسهِ/ فِكَراً تُباعُ، وخاطراً يُستأجرُ» (قصيدة بغداد 1962).
*نقلاً عن “الاتحاد”