يقول “نيتشه” في رائعته (هكذا تكلم زرادشت) :
” إنه لاينبغي علي الإنسان العارف أن يحب أعدائه فحسب ، بل عليه أيضاً أن يكون قادراً علي كره أصدقائه ” !!
في ذاكرة كلٍّ منا حتماً ذلك الشخص الذي يقايض الغفران لأي إهانة وجهت إليه في لحظة مقابل ابتسامة أو حتي ظل ابتسامة ،،
أكثر من هذا ، يحدث كثيراً أن يفشل في السيطرة علي مشاعره المتدفقة ويبادر إلي عناق الذي أساء إليه وهو يقول والدموع تسيل من عينيه ، طبيعية و حارة :
– حقك عليّْ ، أنا الغلطان !!
هكذا شخص ، من السهل أن نتهمه بالمشاعر الصحية التي تدلُّ علي سلامة الجذور وسمو المعدن ، لكنها ، للأسف ، لا توقظ في نفوس كل الناس حيال ذلك الشخص احتراماً ، هؤلاء هم الذين قال عنهم “فريدريك نيتشه” في (هكذا تكلم زرادشت) أيضاً :
“بعض الناس لا يحقُّ لك أن تمدَّ يدك إليهم , بل كفَّ الوحش , وأريد أن تكون لكفك مخالبُ أيضاً “
وهكذا شخص ، محكومٌ عليه بحرق نفسه بناره الخاصة ، محكومٌ عليه أيضاً بأن يموت قبل أن يجعل من موته حدثاً ينبه نظرية ..
وهكذا شخص ، هو الغالبية العظمي من المصريُّين ، ولا أستطيع أن أنفي أسفي لهذا أو أؤكده ..
فالمصريون علي الدوام ، أصحاب ذاكرة عامة سطحية و سريعة النسيان ، و أعماق قادرة علي امتصاص الأحقاد ، وأرقامٌ سهلة يمكن لأي شخص يستطيع أن يتهجي لغة الثعالب أن يتجاوزها بكلمة أو ابتسامة أو مجرد وعود بلون السراب ، كذلك كانوا وما زالوا كذلك !!
لذلك ، لم يكن غريباً أثناء “ثورة يناير” أن يقايض كثيرٌ من المصريين غفرانهم مقابل بضع كلمات ملونة وخادعة من “مبارك” الذي لم يكتفي بالسطو علي طفولة و شباب و كهولة و مقدرات جيل كامل منهم ، بل كان يطمع في المزيد ، وفي استئناف سلالته المباركة لأسطورته المظلمة من بعده ، مع الأخذ في الاعتبار أن سلالته المباركة هذه لا تعني بالضرورة أبنائه فقط !!
ومن محرضات النقمة علي هكذا شعب قريب القاع ، أنه لا يكتفي برؤية أشيائه يسطو عليها أعدائه فقط ، بل و يبارك سارقيه ، وأكثر من هذا ، بسخافة المؤرخين ، يترك في ذاكرته علي الدوام ركناً فارغاً ومعداً علي الدوام لتمجيدهم والاحتفاظ بمناسباتهم الخاصة !!
والآن ..
يا حنا يا حنا يا حنا يا قطر الندى
يا شباك حبيبي ياعيني ، جلاَّب الهوا
أطلي أطلي
ويهواكي فيهواكي يهواكي قطر الندى
ويهواكي يهواكي يهواكي قطر الندى
ويشهر رشاشه رايةً
ويشهر رشاشه رايةً
ليصد الردا ويكيد العدا
ليصد الردا ويكيد العدا
ويهواكي ويهواكي يهواكي قطر الندى
ويهواكي يهواكي يهواكي قطر الندي
يا حنا يا حنا يا حنا يا قطر الندى
يا شباك حبيبي ياعيني جلاب الهوي
هذا هي النسخة الأولي من أغنية الفنانة “شادية” ( الحنة يا حنة يا قطر الندى ) التي كتب نسختها التي نعرفها الآن الشاعر “عبد العزيز سلام” ولحنها الفنان “محمد فوزي” ، وهي من أشهر أغاني المناسبات في مصر ..
بمجرد نظرة علي النسخة الأصلية من هذه الأغنية ندرك أن لهؤلاء الفنانين الثلاث فضل في ترميم طلل قديم ، أو حقنه بنسغ الحياة علي الأرجح ، فلهذه الأغنية قصة ، ولولاهم لاندثرت هذه الأغنية في زمن لا يمكن أن يستسيغ أحد فيه كلمات مثل “يشهر رشاشه رايةً” ..
و جذور هذه الأغنية تنخفض إلي عصر الدولة الطولونية التي أسسها “أحمد بن طولون” ، وهو عسكريٌّ من أتراك قبيلة “القبجاق” أو “القفجاق” ، وتعرف أيضا بإسم “القبيلة الذهبية” ، وهو إقليم بحوض نهر “الفولجا” بالجنوب الشرقي من “روسيا الآن” و شمال “البحر الأسود” ، وكانوا أهل حل و ترحال على عادة البدو ، يعيشون أسوأ ألوان الضنك ، كما كانت بلادهم سوقاً رائجة للعبيد ..
نشأت أسرته في “بخاري” ، وكان والده أحد حراس الخليفة “المأمون” ابن الخليفة “هارون الرشيد” ابن الخليفة “المهدي” ، وهلم جراً ، معذرة ، أكره “هلم جرا” هذه !! ..
ولاشك في أن مجد هذا المملوك يعود الفضل فيه إلي سلسلة من الصدف السعيدة ، فبالإضافة إلي صلة أبيه بـ “المأمون” ، حدث أن الخليفة “المعتصم” ، خليفة “المأمون” في السلطة ، في أكبر حماقاته علي الإطلاق ، عمل علي سيطرة المماليك علي مفاصل الدولة علي حساب السكان الأصليين ، ظناً منه أنه الخير لأسرته ، وكانت النتيجة أن فقد خلفاء الدولة العباسية السيطرة علي الأمور ، وأصبحوا كالدمي في أيدي المماليك ، قبل أن يزولوا ويزول ملكهم تماماً ..
حدث أيضاً أن آلت ولاية مصر بعد موت “المعتصم” بقليل إلي المملوك “باكباك” ، زوج أم “أحمد بن طولون” ، وأتى به معه إلى مصر ..
ثم آلت بعده إلى المملوك “برقوق” الذي كان أباً لزوجة “ابن طولون” ..
وكلا الرجلين أنابا “ابن طولون” للقيام بأمر مصر ، فوليها في سنة “868 م” ، ثم أضيفت إليه ولاية الشام بعد ذلك بخمسة أعوام ، ثم أعلن الدولة الطولونية المستقلة ، التي تعاقبت أسرته على حكمها لـ “38” عاماً ..
من الطريف في سيرة هذا المملوك أنه كان أباً لـ “34” ابناً !!
و “قطر الندي” سالفة الذكر هي حفيدته ، وهي “أسماء بنت خمارويه بن أحمد بن طولون” ، وكانت ، إذا صدقنا الروايات ، أجمل نساء عصرها وأكثرهن ثقافة ..
ولرغبة أبيها في تهدئة الجبهة المشتعلة بين الدولة العباسية والدولة الطولونية علي الدوام ، أرسل إلي الخليفة “المعتضد” يطلب منه تزويجها من أحد أبنائه ، أخطب لبنتك ومتخطبش لابنك ، لعل هذه الحادثة هي النبع الذي استقي منه المصريون هذا المثل الشهير ، ربما ، من يدري ؟
كان عمر “قطر الندي” حينئذ “14” عام !!
أذهل “خمارويه” رد الخليفة علي الرسالة وفاق كل توقعاته ، لقد رغب هو نفسه في الزواج منها ، ودفع لها مهراً قيمته “مليون” درهم ، وهو رقم في ذلك العهد عظيم ، بل هو رقم يدعو الذين لا يعرفون كيف نشأت وأين نشأت “قطر الندي” إلي التشكيك في الحكاية برمتها ، إذ كان ثمن الواحدة من أجمل الجواري في ذلك الوقت يعادل ثمن “بطيخة” ، وهذه رواية صحيحة ومتواترة !!
لكنني مستعد علي كل حال أن أصدق هذا الرواية ، فهو رقم يليق بحسناء تركية الجذور ولدت فى قصر “القطائع” الذى شيده “خمارويه” على غرار قصور “ألف ليلة و ليلة” ..
إيوان من الذهب , و بركة كبيرة من الزئبق , و مسارح للطير و الأسود والنمور !!
من المؤسف ، أن كل هذا صنع بأموال السكان الأصليين !!
ومن أموال المصريين أيضاً أنفق علي جهاز ابنته “قطر الندي” أضعاف مهرها ..
أريكة من الذهب الخالص ، عليها قبة من الذهب المشبك فى كل عين من التشبيك قرط معلق فيه حبة من الجوهر لا يقدر بمال ، و مائة هاون من الذهب !!
ويزعم بعض مؤرخي ذلك العهد أن نفقة هذا الجهاز بلغت “400” مليون درهم ، و هو رقم لا يصدق علي أية حال ، فهو في ذلك الزمان كان كافياً لتجهيز عدة جيوش في وقت واحد !!
ومن أموال المصريين أيضاً أمر أن يبنى لابنته عند كل محطة استراحة ، قصراً تستريح فيه كأنها فى بيت أبيها !!
بالرغم من كل هذا ، اعتبر المصريون عن طيب خاطر هذا الزواج حدثاً يليق بالرقص في أوصاله ، و عيد كبير سيحظون فيه بالطعام والشراب والطرب مجاناً ، دون أن يدور ببال هؤلاء البهلوانات أن كل هذا من فتات مالهم هم ، وأن الوالي يجود عليهم من عطاياهم لا من مال أبيه!!
أياً كان الأمر ، لقد خرج الموكب من “القاهرة” وسط أمواج من المصريين المتزاحمين لمشاهدته ، وترك في كل مكان حل به ذكري لا يزال بعضها حياً حتي اليوم ، لعل أهم هذه الذكريات قرية في محافظة الشرقية حملت ، ربما حتي الآن ، اسم “قصر العباسة” ، و “العباسة” عمة العروس ورفيقتها في الرحلة إلي العراق ، ذلك أن القصر الذي بني للاستراحة في تلك المحطة حمل اسم “قصر العباسة” !!
انتهت طقوس ذلك الزواج الأسطوريِّ ، واستبشر الناس خيراً وسلاماً سوف ينجم عنه ، وتوقعوا بداية جديدة ، ثم .. خابت كل الظنون !!
لقد كان هذا الزواج بداية النهاية لا البداية ، وبداية النهاية هي بداية علي كل حال ، لكنها في غير صالح تلك الأسرة ..
إذ أشاحت الدنيا بوجهها الأبيض عن تلك الأسرة إنطلاقاً من ذلك اليوم تحديداً ، و قتل “خمارويه” في دمشق بمؤامرة من عبيده بعد شهور قليلة من زواج “قطر الندي” ، و هي الأخري ماتت قبل أن تصل عامها العشرين ، ثم زالت “الدولة الطولونية” بعد موتها بأعوام قلائل ، ولم يبق من هذه الأسرة سوي بضعة صفحات في بطون الكتب ، وبعض الذكريات التي لها صدي حتي الآن في لهجات المصريين ، مثل :
قاعدين علي قلبها لطالون ، و اخطب لبنتك ومتخطبش لابنك ، والحنة يا حنة يا قطر الندي !!
ما أشبه الليلة بالبارحة ..
الآن أيضاً ، هناك من يوزع العطايا علي المصريين ، في مسلسل “حريتك مقابل طعامك” الذائع الصيت ، وكل هذه العطايا هي من مالهم هم لا مال أحد ، الغريب ، أن من يوزع عليهم العطايا هو أيضاً من أملاكهم ، أفيقوا يرحمكم الله ..
يقول “نيتشه” أيضاً في (هكذا تكلم زرادشت) :
“اجتنبوا الروائح الكريهة ، و ابتعدوا عن عبودية الفائضين عن اللزوم للاصنام ، ابتعدوا عن دخان هذا القربان البشري”
أو كونوا ولو مؤقتاً علي الحياد ، لا إلي هؤلاء ولا إلي هؤلاء ..
محمد رفعت الدومي