تقول الرواية إنه فور انتهاء حرب تموز (يوليو) 2006 التي شنتها إسرائيل على لبنان، طلب الرئيس السوري بشار الأسد من حلفائه في لبنان عبر «حزب الله» أن يستخدموا كل الوسائل من أجل تغيير حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في حينه، والتي كانت الأكثرية فيها لقوى 14 آذار نتيجة رجحان كفة الأخيرة في انتخابات 2006. الطلب جاء فور انتهاء الحرب على الشكل الآتي: «يجب أن تأتوا بحكومة تحصلون فيها على الثلث المعطّل». والهدف كان «تعطيل» الأكثرية المعادية للأسد، التي كانت في طريقها الى تمرير قيام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان لمحاكمة المتهمين في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. والهدف الأبعد كان التمهيد لقلب موازين القوى اللبنانية التي أعقبت الانسحاب السوري من لبنان قبل أكثر من سنة.
استكبر «حزب الله»، وحلفاء دمشق، لا سيما رئيس البرلمان نبيه بري في حينه، التوقيت الذي طلبه الأسد. كان المطلوب أن يحصل ذلك في آخر أيلول (سبتمبر) من العام نفسه. فلجأوا الى سيناريو لبناني للعملية، خصوصاً أنه لم تكن قد مضت أيام على توصيف بري نفسه حكومة السنيورة بأنها حكومة «المقاومة السياسية». احتاج الحلفاء الى الاستقالة من الحكومة (بذريعة الخلاف على تقديم لبنان طلب إنشاء المحكمة الدولية الى مجلس الأمن). وحين لم تنجح الاستقالة، لجأوا الى الاعتصام الشهير وسط بيروت والذي دام سنة وأكثر من 17 شهراً. وحين فشل الاعتصام في إسقاط الحكومة لجأ الحلفاء الى اجتياح بيروت عسكرياً في 7 أيار (مايو) 2008 الذي انتهى الى تكريس الثلث المعطل في الحكومة عبر اتفاق الدوحة الشهير والذي استمرت مفاعيله حتى بعد حصول خصوم الأسد والحزب على الأكثرية في انتخابات 2009 النيابية التي «ألغيت» نتائجها بإسقاط الثلث المعطل حكومة الرئيس سعد الحريري مطلع عام 2011. وجاء ذلك بالتزامن مع صدور القرار الاتهامي عن المحكمة بتورط 4 من مسؤوليه في جريمة اغتيال الحريري الذي «أُسقط» في 14 شباط 2005، لأنه كان يتهيأ للفوز بالانتخابات النيابية لتشكيل حكومة «كاملة الصلاحيات».
لم يكن صدفة أن يقترن جهد الأسد والحزب عام 2006 للحصول على الثلث المعطل مع هجومه الأول على المملكة العربية السعودية في حينه، بحديثه الشهير عن «أشباه الرجال». ولم يكن صدفة أن يقترن إسقاط حكومة الحريري عام 2011، مع إسقاط محاولة الاتفاق مع السعودية في إطار ما سمي الـ «سين – سين» وإخراجها من لبنان. وليس صدفة الإصرار على الثلث المعطل في الحكومة التي يسعى الرئيس المكلف تأليفها تمام سلام بالتزامن مع الحديث عن عودة النفوذ السعودي باستقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في أواخر آذار (مارس) الماضي.
لكن الأهم والمؤكد أنه ليس صدفة أن يتزامن حديث الثلث المعطل في حكومة لبنان، مع استمرار البحث عن صيغة لتطبيق تلك الفقرة الشهيرة في قرار جنيف في 30 حزيران (يونيو) 2012 حول الأزمة السورية والتي تقول بقيام «جهاز تنفيذي كامل الصلاحيات» (حكومة) لقيادة المرحلة الانتقالية في السلطة في سورية. وجوهر هذا البحث الدائر منذ أكثر من سنة و3 أشهر هو هل يسلّم الأسد هذه الصلاحيات الى هذه الحكومة، لتشرف على انتخابات جديدة… وإعادة تأهيل الجيش والمؤسسات والمصالحة… بعد الإفراج عن مئات الآلاف من المعتقلين إلخ، أم إن الحكومة الانتقالية تتشكل من موالين ومعارضين يختارهم النظام لتبقى الصلاحيات الأساسية المتعلقة بالأمن والسياسة الخارجية بيده هو؟
وفي وقت تعكف واشنطن وموسكو خلف الكواليس على إعداد إطار عمل لـ «جنيف – 2» يسمح بالتفاهم على تطبيق هذه الفقرة، وفي وقت ما زالت واشنطن تعتبر أن تجاوب الأسد مع الاتفاق الروسي – الأميركي على التخلص من ترسانته الكيماوية، لا يعني تخليها عن موقفها بأن عليه أن يرحل، فإن الرئيس السوري وإيران و «حزب الله» يعتقدون أن التفاهم الدولي سيفضي الى بقائه، بالتالي فإن قيام الحكومة الكاملة الصلاحية في سورية غير وارد. وهذا يعني أن الحل السياسي الوحيد بالنسبة الى تحالف النظام مع إيران و «حزب الله» هو باستمرار الأسد. والبديل هو استمرار الحرب الدائرة على أرض سورية، مع حسابات بقدرة النظام على الصمود بعدما أزيح شبح الضربة العسكرية الأميركية نهائياً.
كذلك في لبنان، لا مجال لقيام حكومة مكتملة الصلاحيات، والثلث المعطل هو وسيلة تعطيل تلك الصلاحيات. وإذا استندت أي حكومة الى أكثرية برلمانية، فإن التهديد بالتعطيل في الشارع هو البديل.
ليس عن عبث التهديد بالفراغ في «الجهاز التنفيذي» اللبناني برمته، وليس فقط على الصعيد الحكومي، عن طريق التبشير بالفراغ الرئاسي في ايار من العام المقبل. وما دام قيام هذا الجهاز المكتمل الصلاحيات مرفوضاً في سورية، يبقى مرفوضاً في لبنان.
أصر الأسد على الثلث المعطل عام 2006 منعاً لقيام حكومة مكتملة الصلاحية في لبنان بعد خروجه منه. ويسعى الآن مع «حزب الله» وإيران الى منع قيام حكومة كهذه في سورية وفي لبنان، تفادياً لإخراجه من سورية.
* نقلا عن “الحياة” اللندنية