مضى أسبوعان كاملان على حادث التدافع المريع في منى، ولم نسمع من السلطات السعودية وهي المسؤولة عن إدارة مواسم الحج وتأمين الحجاج، تفسيراً لما حدث، أو تبريراً لهذا العدد الكبير من الشهداء الذين سقطوا في ساعاتٍ أمام ناظري عناصر أجهزة الدفاع المدني، وهم آلاف العناصر المزودين بتجهيزاتٍ عالية، وعندهم إمكانياتٌ كبيرة، ولديهم وسائل اتصالٍ حديثة وسريعة، ومع ذلك فقط لفظ العديد من الحجاج أنفاسهم الأخيرة أمامهم، ومنهم من كان يستجدي المساعدة، ويمد يده طالباً النجدة، ويستصرخ الشرطة وأجهزة الدفاع المدني لإنقاذه.
اليوم وبعد عودة الكثير من الحجاج إلى بلادهم، ممن نجوا من هذا الحادث الأليم، كشفت كاميرات هواتفهم النقالة عن صورٍ مريعةٍ ومحزنة، ومؤلمةٍ وقاسية، غطت جوانب كثيرة من المأساة، فقد كشفت الصور التي التقطوها بأنفسهم، أو تلك التي تبادلوها فيما بينهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، عن الكثير من الحجاج وهم تحت الأجساد وقد كانوا أحياءً، لكنهم ماتوا نتيجة التأخر في إخراجهم من تحت الأجساد المتراكمة فوق بعض، علماً أن العديد ممن سقطوا كانوا في حالة إغماء نتيجة الضغط والاختناق ونقص الأكسجين، الأمر الذي كان يعني إمكانية استدراكهم وإنعاشهم، وهذا أمرٌ ممكنٌ وسهل، ويعرفه المسعفون جيداً، بأن من يغمى عليه يعيش فترةً أطول في غياب الأكسجين من غيره، إذ تقل حاجة الجسم في حالة الإغماء إلى نفس الكميات من الأكسجين في الظروف العادية.
في ظل غياب الرواية الرسمية الشفافة للسلطات السعودية، فإنه بوسعنا ومن حقنا أن نقول أن عدد الشهداء الذين قضوا خنقاً، ونتيجة التأخر في إنقاذهم، والإهمال في سرعة إخراجهم، أكثر من أولئك الذين قتلوا دهساً تحت الأقدام، وأن عدد الشهداء الحقيقي هو أكثر بكثيرٍ من الأعداد التي تتناقلها وسائل الإعلام السعودية، ولعل إحصائية بسيطة لعدد ضحايا كل الدول التي مني حجاجها بهذه الفاجعة، يشير إلى أن العدد الحقيقي للشهداء هو أضعاف ما تم الإعلان عنه حتى اليوم، وعلى السلطات السعودية أن تؤكد ذلك أو تكذبه.
كما أن التأخر الحادث والذي يبدو أنه مقصودٌ، في الكشف عن مكان المفقودين وبيان حالتهم يزيد في حالة الغموض، ويبعث على المزيد من التساؤل والحيرة، ويبرر الشك والريبة، إذ ما الذي يمنع السلطات المسؤولة عن الإعلان عن العدد الرسمي للشهداء المعروفي الأسماء والجنسية، وعدد المفقودين وأسمائهم وجنسياتهم، فضلاً عن أعداد المجهولي الهوية ممن هم قتلى أو مصابين في المستشفيات، إذ لا يوجد مبرر لهذا التأخير، ولعل الإسراع في الإعلان يسعف المدافعين عن إدارة الحج، ويساعدهم في رد الشبهات عنهم، ودحض الأقاويل التي تثار ضدهم، خاصةً أن أجهزة الحواسيب الرسمية العاملة في المطارات وعلى المعابر والموانئ، تحفظ أسماء الحجاج جميعاً وساعة وتاريخ دخولهم إلى البلاد، كما تحمل صورهم الشمسية وبياناتهم الشخصية، الأمر الذي ينفي أي مبرر للإبطاء أو التأخير في الكشف عن البيانات الرسمية لكل جوانب الحادث.
من حقنا نحن المسلمين أن نسأل السلطات السعودية عن الرواية الحقيقية لما حدث، وهي بالتأكيد تملك القدرة على الإجابة، فهي تقول بأنها تملك آلاف الكاميرات وأجهزة المراقبة الإليكترونية وغرف التحكم الحديثة، التي تتحكم في كل المشاعر المقدسة في مكة ومنى والمزدلفة وعند رمي الجمرات، فأين هذه الكاميرات، وماذا تحمل صورها من حقائق تفسر لنا ما جرى، فنحن نريد معرفة من المسؤول عن هذا الحادث، ولا يجوز بحالٍ أن نحمل الحجاج المسؤولية عنها، وإن قصر بعضهم أو خالف الأوامر والتعليمات، وقد مضى من الوقت ما يكفي لإعلان نتائج التحقيق.
قد لا نكون نريد إدانة السلطات السعودية، ولا نسعى لذلك بقصدٍ أو بسوء نية، في الوقت الذي لا نقبل فيه تبرئة المدان والتستر على المقصر، كما أن من حقنا نحن المسلمين أن نعرف الحقيقة كاملة وغير منقوصة، فنحن بتنا نخشى تكرار مثل هذه الحوادث، وقد باتت كثيرة ومتنوعة، وهي تتكرر في كل عامٍ، كلُها أو بعضُها، حرائقٌ وتدافعٌ ودهسٌ واختناقٌ، وتصادمٌ وسقوط أجسامٍ ثقيلة، وغير ذلك من الحوادث التي لا ننفي عن بعضها صفة القدرية، ولكن الكثير منها هو نتيجة الإهمال والتقصير ونقص الخبرة والكفاءة، واحتكار الإدارة والتكبر عن المشورة وطلب النصح والمساعدة.
ربما لا تعلم السلطات السعودية كم هي فرحة المسلم في كل مكانٍ عندما يصله نبأ الموافقة على الحج، فهو يقضي السنوات الطوال وهو ينتظر على قوائم المرشحين، ومنهم من ينتظر أكثر من عشرة سنواتٍ قبل أن يأتي دوره، ومنهم من تسبقه منيته دون أن يناله شرف الحج وفضله، فيحمل ورثته من بعده هذا الواجب، وينوبون عنه في سنواتٍ تالية، وقد يتكفلون أكثر لعظم هذه الشعيرة، ومكانتها الكبيرة في حياة المسلمين.
ما إن يحصل المسلم على الموافقة الرسمية، ويرد اسمه ضمن قوائم الحجاج، حتى يبدأ في التعرف على مناسك الحج، فيسأل ويقرأ، ويتابع ويشاهد أفلاماً وثائقية، وبعض الدول الإسلامية تقدم خدماتٍ لمواطنيها الراغبين في الحج، فتعقد لهم دوراتٍ خاصةٍ، لأيامٍ طويلة قبل بدء موسم الحج، وتجري لهم طقوساً مشابهة، كي يلم الحاج بمناسك الحج كلها، وأماكن العبادة، ويعرف ماذا قبل وماذا بعد، وما الذي يسبق هذه الشعيرة وما الذي يتلوها، وغير ذلك فيما يتعلق بالمسافات ووسائل النقل وكيفية الوصول إلى المشاعر.
يخطئ كثيراً من يحاول أن يبرئ السلطات المسؤولة ويجتهد في إيجاد التبريرات لها، ورفع العنت عنها، والتخفيف من مسؤوليتها في هذه الحادثة وغيرها، ويخطئ أكثر من يحمل الحجاج وحدهم المسؤولية عما يحدث لهم في موسم الحج من حوادث، ذلك أن أغلبهم بات يدرك أن مواسم الحج تشهد حوادث مختلفة، ومفاجئاتٍ غير غير متوقعة، ما يجعلهم يتهيأون لها، ويحذرون منها، ويحتاطون في حركتهم وانتقالهم مخافة تعرضهم لبعض هذه الحوادث التي يبدو من تكرارها أنها مميتة.
أيها القائمون على إدارة الحج، لا تقتلوا فرحة الحجيج بتقصيركم، ولا تكونوا سبباً في مصيبتهم بإهمالكم، ولا تجعلوا منية المسلمين في أمنيتهم، ولا تفجعوا الأهل الذين زينوا بيوتهم والشوارع استقبالاً لحجاجهم وابتهاجاً بعودتهم، وكونوا مخلصين في حمل هذه الأمانة، وصادقين في رعايتها، وأمناء على أرواح هذه الأمة، وأشركوا معكم الأكفاء القادرين وأصحاب الخبرة من أمتنا في تسيير هذه الشعيرة، وإدارة مناسكها، لينالهم بعض الشرف الذي يريدون، وليتحملوا معكم بعض العبء والمسؤولية التي يحملون.
بيروت في 9/10/2015