توفيت منذ يومين طالبة ماجستير في كلية الدراسات الاجتماعية في جامعة الملك سعود للبنات بسبب أزمة قلبية، لكن الحكاية
ليست في السبب الصحي للوفاة، بل في السبب الآيديولوجي لتأخر الإسعاف.
فإصابة المرء بأزمة قلبية لا تقود بالضرورة إلى الموت – بمشيئة الله – إذا ما تمّ التدخل السريع لعلاجها، لكن لو تأخر الإسعاف أو انعدم فإن المصاب سيموت، وهذا ما حدث مع طالبة الماجستير آمنة. الإسعاف لم يتأخر، بل جاء بعد الاتصال به، ووقف خارج المبنى ساعتين ينتظر الإذن بالدخول، لأن من في الداخل نساء، والدخول إليهن حتى ولو لإسعاف مصابة، له شروط ومتطلبات.
أتخيل أن الإسعاف حين وصل رنّ جرس الباب الموصد بالأقفال، فرد عليه سكان المبنى قائلين: «مين عند الباب؟» فقال: «أنا الإسعاف»، فقالوا: «آسفين ما نقدر نفتح لك لأن البنت المصابة بأزمة قلبية لا تلبس غطاء، ومغمى عليها، فانتظروا حتى تصحو وتتغطى»!
أتخيل أن هناك ارتباكاً يحدث عادة حين يتعلق الموضوع بامرأة، ولا بد من أن المسؤولة في الكلية شددت قبل أن تسمح بأن تتلقى الطالبة الإسعاف على ضرورة الاتصال بالمحرم، وأخذ إذنه وأنفه وكل ما يمتّ لأعضاء سلطته، ووصايته الموقرة، بالموافقة على أن يتم إسعاف «حرمته» التابعة له ولإقطاعيته! أذكر مرة وأنا طالبة في الجامعة نفسها أن المصعد توقف وبداخله طالبات، وجاء رجال الدفاع المدني لإخراجهن، وتم تأخير دخولهم لأن بعض الموظفات كن يحاولن مدّ الطالبات داخل المصعد بعباءات ليتمكنَّ من تغطية أنفسهن قبل أن يفتح رجال الدفاع المدني عليهن المصعد، على رغم أن إضافة غطاء فوق أنفاسهن في مصعد حبسن فيه ساعات، تزيد من اختناقهن أكثر مما هن مختنقات.
حادثة موت آمنة تذكرنا بحادثة حريق مدرسة بنات في مكة عام ٢٠٠٥، التي أسفرت عن موت ١٥ طالبة، وتسببت في الإطاحة بجهاز الرئاسة العامة لتعليم البنات ودمجها مع وزارة التربية والتعليم، وكان سبب وفاة الفتيات الـ١٥ أيضاً «الحشمة»، فرجال هيئة الأمر بالمعروف كانوا يعيدون الفتيات اللاتي يخرجن هاربات مذعورات من الحريق إلى داخل المبنى ليحتشمن ويتغطين قبل خروجهن، فالحشمة في منهجهم تتقدم على الحياة. يقول المثل المصري القديم: «اللي اختشوا ماتوا»، وقصته تقول إن الذين فكروا لحظة شب حريق داخل الحمام العمومي في البحث عن ملابسهم وخجلوا من الخروج عراة، كان مصيرهم الموت!
هل الحياة رخيصة إلى هذا الحد؟ إلى درجة أن يفكر المرء بأنه يجب أن يكون بكامل حشمته، حتى وهو يواجه أزمة قلبية أو يحترق بالنار؟ أليست لهذه الأخطار آلام تفوق آلام الخجل والانكشاف؟ وهل يكون الذكر ذكراً وهو في موقع الطبيب أو المسعف؟ وهل المرأة في حال الحريق أو المرض ليست إلا جسداً مثيراً ومغرياً؟ إنها حال من التدخل الإنساني تغيب فيه الغرائز وسطوة المفاهيم الاجتماعية وحتى الدينية، فالقانون الفقهي نفسه يبيح المحظورات عند الضرورات. لا يوجد عاقل على هذه الأرض يتساءل مرتين إن كان عليه أن ينقذ جارة تستغيث بأن يرمي عليها عباءتها أولاً، إلا إن كان حيواناً كبيراً «بنمرة واستمارة»! عملية الشحن الآيديولوجي هي التي جعلت أجسادنا في المخيلة أكثر حضوراً من أرواحنا في الواقع الإنساني، وجعلت جسد المرأة مشروع غواية حتى وهو يحتضر أو يحترق، لكن هذا لا يلغي مسؤولية الجامعة التي تستجيب لمثل هذه المفاهيم، وعليها أن «تختشي» أيضاً.
* نقلا عن صحيفة “الحياة”