الحسّونة – “صباح” .. من “وادي شحرور” إلي الخلود!
للجميلة التي هزمها الموت قبل أيام أكتب، وفي مكان ما أعشق ساكنه خطر لي أن أسمي “صباح” بـ “الحسونة”..
عن “الحسونة”، وهي التي أنفقت عمرها توزع البهجة في جهات الكون الناطق بالعربية الأربع أكتب!
أكتب عنها من قمر أحمر لا يري أهله منذ بدايات منتصف القرن الماضي من ألوان قوس قزح إلا اللون الأسود!
من قمر يواصل انسحابه إلي أفق مجهول، بعدما صار للدم المراق خارج القانون في كل ملليمتر من مساحته الشاسعة نعيق كنعيق البوم، أكتب!
من “مصر” أكتب عن “جانيت فغالي”، أوَلم تغني هي لـ “مصر” ذات يوم بعيد: ” والله و اتجمعنا تانى يا قمر”؟
“صباح” حالة، لا تحتاج إلي أحد أن يضئ سيرتها، ظلت حتي لفظت آخر أنفاسها امرأة مفتوحة علي كل الاحتمالات، أيقونة براقة، يكفي كل من يريد أن يعرف “صباح” أن يفتش عنها في أعماقه، فهي بالتأكيد موجودة هناك، موجودة جداً، كما أن هناك مسلسل يسرد كل الخطوط العريضة لشخصيتها، كان اختيار “كارول سماحة” لتجسيد تلك الشخصية، برغم ولعي الخاص بصوت “كارول سماحة”، وبرغم قامتها الخاصة، في رأيي، خطأ كبيراً، فالمسافة بين النجمتين فادحة إلي حد يظن معه المتلقي الذي رأي بالضرورة “صباح” علي الشاشة بأن العمل يدور حول “صباح” أخري، لا أعرف الآن بالضبط من أين يهبُّ استهجاني لأن تؤدي “كارول سماحة” دور “صباح”، ربما كان شعوراً مضللاً، أو، ربما كنت مخطئاً..
أنا هنا الآن لأروي “صباح” من زاويتي الخاصة، وفي ضوء المكان والزمان وما يربي كلاهما من أحاسيس طارئة في الأعماق البشرية، وفي ضوء متحيز أيضاً، لأنني، فقط، أحبها!
في البداية، لا أعتقد أبداً أنه من قبيل الخروج عن السياق أن أبدأ الكلام عن الجميلة “صباح” ببعض من كلمات أغنية للفنان “وائل كفوري”:
وما وعدتك بنجوم الليل/ ولا بطرحة من خيوط الشمس/ ولا بجبلك عضهور الخيل/ كنوز الجن ومال الانس/ أنا زلمة ع قد الحال/ ومملكتي أوف وموال/ ومنجيرة عن جدي وبس!
أنا ما عندي ما عندي قصور/ ولا مخدة من ريش نعام/ ولا كاساتي من بلور/ ولا جواري ولا خدام..
أنا أنا ما عندي ما عندي قصور/ ولا مخدة من ريش نعام/ ولا كاساتي من بلور/ ولا جواري ولا خدام..
عندي بيت براس الجرد/ وجرة مي وحقلة ورد
عندي بيت براس الجرد/ وجرة مي وحقلة ورد
وعلى صوت الحسّون بحس / وعلى صوت الحسّون بحس …..
صوت “الحسُّون” أجمل من صوت الشحرور بالتأكيد!
لم أخرج عن السياق فالسياق واحد، وكلا الصوتين يحمل رائحة الجبل، وكلاهما خرج من نبع واحد يواصل السيلان هناك تحت ظلال شجر الأرز، ذلك الشجر الذي حمله اللبنانيون إلي “فلسطين” معونة من الملك الفينيقي “احيرام ” ملك “صور و جبيل” إلي الملك “سليمان” عند بناء هيكله الشهير، هذه رواية التاريخ لهذا الحدث، كما أن التوراة لمست سيرة ذاك الملك لمساً رقيقاً، غير أن رواية القرآن لهذه الحقيقة التاريخية المؤكدة تفرض سؤالاً:
– هل اللبنانيون ينحدرون من سلالة الجن فعلاً؟
لو تُركتُ علي سجيتي، أو كنت رحالة في زمن قديم، لأجبت بأنهم كذلك فعلاً من أجل شخص واحد فقط، إنه دجال “لبنان” الشهير “مايك فغالي”، فإن في ملامح وجهه بعضاً من ملامح الجن الذهنية التي اقترحتها علي طفولتنا الأساطير وحكايا الجدات..
“لبنان”، وفتنة ذلك البلد الصغير غريب الأطوار، ورقة شعبه الأقرب شبها بشعوب البحر المتوسط من الأوروبيين منه إلي الشعوب الناطقة بالعربية، وفلسفته الخاصة للجمال وللشرط الإنساني، كذلك، شغفه الشديد بالترحال، لمجرد الترحال أحياناً، كل ذلك معاً، من المسلمات التي لا تقبل القسمة علي اثنين!
لقد وزع اللبنانيون عطورهم الخاصة علي كل القارات حتي أن عدد المهاجرين من “لبنان” يفوق ضعف عدد المقيمين فيه، ما من بقعة زحف إليها العمران في هذا الكون الكبير إلا اهتدي اللبنانيون إليها، يحملون معهم ثقافة هذا البلد في حقائبهم، لكنهم، وهذا هو موطن الدهشة، لا يحتفظون أبداً بخطوط الرجعة، لم يحدث كثيراً أن عاد مهاجرٌ لبنانيٌّ مرة أخري إلي بلده الأم إلا كزائر، حين تصبح الحقيبة وطناً، لكن، ربما، كان سبب ذلك هو أن أكبر موجات هجراتهم حدثت أيام الحكم العثماني في يوم بعيد، فراراً من القمع والاستعلاء الإثني والعنصرية، لذلك، خفتت أسباب العودة في جيل حل الميلاد تمائمه في المنافي فصارت مهاجر الآباء والأجداد أوطانهم الأصيلة لا الطارئة، ولقد أورق الشجر العائليُّ الواقف علي الجذور الجديدة في المنافي الاختيارية علاقات طارئة ازدادت كلما تقدمت في العمر قوة وصلابة، لذلك، كان يجب أن تصبح الغربة، التي هي في نهاية المطاف حصيلة العلاقات الإنسانية، بالنسبة إلي هؤلاء، هي الهجرة من بلاد المهجر لا من وطن الأجداد!
من الجدير بالذكر أن كثيرين من المهاجرين اللبنانيين حققوا نجاحات كبري في مجالات شتي، بل استحوذ بعضٌ من سلالة هؤلاء علي ضوء مبهر في شتي أركان الأرض، علي سبيل المثال:
– المغنية العالمية “شاكيرا”، تعود أصولها إلي عائلة من “زحلة”، بل لهذه العائلة حتي يومنا هذا إرث هناك يشاركها فيه أحد أقارب العائلة وهو السيد “جان بعقليني” البالغ من العمر “71”، هذا الرجل، كرجل شرقي بطبيعة الحال، ادعي، حين طالبته عائلة “شاكيرا” بإرثها، أنه أنفق (75%) من قيمة هذا الإرث علي عجزة العائلة!
أشياء صغيرة لكنها تجعل المرء متي تأملها بعمق يقف علي مشارف الجنون، ولسوف يدرك ببساطة أن قصة العالم الكبير ما هي إلا مجموعة من القصص الصغيرة، وحين يتوغل المرءُ في دهاليز الخيال سوف لا يستبعد أن جد “شاكيرا” كان واحداً من بين الجمهور الذي رأي “محمد عبد الوهاب” يغني لـ “زحلة” ذات يوم بعيد قصيدة أمير الشعراء “أحمد شوقي” الشهيرة، وهو يكاد ينفجر طرباً:
( يا جارة الوادى طربت و عادنى / ما يشبه الاحلام من ذكـراك / مثلتُ فى الذكرى هواك و فى الكرى / و الذكريات صدى السنين الحاكى )
ما أغرب الاتفاق، الذكريات صدي السنين الحاكي!
سوف يقترب المرء من قلب الجنون أكثر حين يقرأ ما كتبه الأديب العظيم الراحل “جابرييل جارسيا ماركيز” عن “شاكيرا”، قال:
(موسيقي “شاكيرا” لها نغمة خاصة بها، والتي لا تشابهها أي نغمة أخرى، لا أحد يستطيع الغناء والرقص مثلها، في كل الاعمار، بمثل هذا الإحساس البريء، الذي إخترعته بنفسها!)
يقترب المرءُ، أو لأكون منصفاً، يقترب من يعرف سيرة “ماركيز” من الجنون عند قراءة هذه الشهادة لسبب بسيط، لقد كان “ماركيز” متزوجاً بامرأة مصرية من أصول لبنانية أيضاً!
وعلي سبيل المثال:
– النجمة العالمية “سلمي حايك”، وللنجمة المكسيكية “سلمي حايك” حكاية أخري تنبض بصدي السنين، وبالذكريات، لقد تم اختيارها، وهو اختيار له مغزي، لتقديم عدد من كتابات الأديب والمفكر اللبناني الراحل، أعظم من نزف حروفاً في بلاد المهجر، “جبران خليل جبران”، من كتابه الخالد “النبي”، ولقد عبرت عن سعادتها بهذا الاختيار، وقاطعت، عند افتتاح عروض الفيلم الكرتوني العالمي الذي يحمل اسم الكتاب على هامش مهرجان “كان” السينمائي، المندوب العام للمهرجان الذي عرفها بأنها مكسيكية، وقالت:
– أنا لبنانيّة أيضاً، وفخورة بكوني امرأة تنتمي أيضاً إلى “لبنان”..
وقالت، بعدما أهدت الفيلم إلى جدها، كما إلى ابنتها الحاضرة في القاعة:
– فقدته، جدي، وأنا في السادسة فقط، لكنني لطالما رأيت هذا الكتاب الصغير بجانب سريره، وأتذكّر غلافه بشكل واضح تماماً، برغم أنني كنت صغيرة، لكنني، وبعد سنوات، حين بلغت الثامنة عشر ربّما، بحثت ثانية عن الكتاب، وصار مثل جدي، يعلّمني الكثير حول الحياة!
أنني هنا بصدد الحديث عن حقائب سفر قديمة حملت “لبنان” إلي العالم أكثر مما أنا بصدد الحديث عن بشر رحلوا!
وعلي سبيل المثال:
كل هؤلاء النجوم، لا أعرف الكثير عنهم، لكن، ما أنا متأكد منه هو أن خلف كل نجم من هؤلاء النجوم قصص عائلية صغيرة بين طيات قصة العالم الكبير بمقدورها أن تجعل المرء يقف علي مشارف الجنون:
– “وينتوورث ميللر” نجم مسلسل
PRISON BREAK””
من أصول لبنانية..
– “شانون أليزابيث”، ممثلة أميركية من أصول لبنانية سورية..
– “ريما فقيه”، ملكة جمال الولايات المتحدة لعام “2013” من أصول لبنانية، وهي،- وأدرك أن هذا التصنيف لا يليق تناوله أصلاً- “شيعية” أيضاً..
– “جينا ديوان”، زوجة الممثل “شانينج تايتوم” من أصول لبنانية..
– “آيمي يزبك”، ممثلة أمريكية ذائعة الصيت، من أصول لبنانية..
– “فينس فون”، ممثل أميركي من أصول لبنانية..
– “طوني شلهوب”، واسمه عربي لم يتماهي مع أسماء غربية، وهذا واضح، ممثل أميركي من أصول لبنانية..
– “ياسمين بليس”، ممثلة أميركية من أصول لبنانية جزائرية..
– “مساري”، فنان كندي من أصول لبنانية..
ليس هذا كل شئ، هناك أيضاً آخرون كثر من ذوي الأصول اللبنانية حققوا نجاحات مذهلة علي الصعيد الكونيِّ، مثلاً:
– “كارلوس سليم الحلو”، أغني أغنياء العالم لثلاثة سنوات متعاقبة، هاجر والده، وهو مسيحي ماروني من بلدة “جزين” جنوب “بيروت” إلي عاصمة “المكسيك” عام “1902” هرباً من تجنيد العثمانيين، وهناك فتح دكاناً صغيراً، ليصبح ابنه بعد حوالي قرن من الزمان المهيمن الوحيد علي سوق الهاتف في “المكسيك” من أقصي اليمين إلي أقصي الشمال، حتي ليقال هناك: إنك متي أجريت اتصالاً من أي مكان في “المكسيك” فأنت حتماً سوف تضع نقوداً في جيب “كارلوس سليم الحلو”!
(هاجروا وبقي أجدادنا يحرسون ماء النيل وتراث الحاكم الإله، اللعنة علي كل أرواحهم)
هناك أيضاً..
– المحامية “أمل علم الدين”، تلك اللبنانية التي وضعت حداً لعزوبية أشهر عزاب “هوليوود” الممثل العالمي “جورج كلوني”..
– السيدة “فيكتوريا رجي”، الحسناء اللبنانية التي تراجعت أمام فتنتها أسوار عائلة “كينيدي” العريقة بزواجها من آخر مشاهير هذه العائلة السيناتور “ادوارد كينيدي” الذي كان قبل رحيله ملقباً بـ “أسد مجلس الشيوخ”..
وعلي الصعيد السياسي، توصل اثنان من أبناء المهاجرين اللبنانيين إلي سدة الرئاسة في “الاكوادور”، كانت مدة حكم كليهما أسوأ الفترات علي الإطلاق في تاريخ هذا البلد الذي استأمن شعبه المسكين علي إدارة شئون بلدهم لبنانيين مولعين بالرقص والغناء وصناعة الأزمات، هذان هما:
– “عبد الله بوكرم”، حكم “الاكوادور” من “10” أغسطس “1996” حتي “6 ” فبراير “1997”، أطلق على نفسه لقب “المجنون”، وهو لم ينس أبداً أنه لبناني قبل كل شئ، لذلك، جعل من هذا البلد،خلال ستة أشهر فقط من حكمه، تماماً كـ “صاحب مصر”، سلة للفضائح المدوية والأزمات، فهو لم يردعه وضعه الجديد عن أن يغني أمام الحشود علانية، ولا عن أن يحلق شاربه علي الهواء في حملة لجمع التبرعات، ولحسن حظ “الاكوادور” تم خلعه ببساطة الماء، فجمع حقائبه وفر إلي “بنما”، ولا يزال مطلوباً للعدالة!
– الآخر هو المحامي “جميل معوض” ، تولى الرئاسة من “10” أغسطس “1998” إلى “21” يناير “2000”، لم يكن أحسن حظاً من سلفه، و اضطر تحت لفح احتجاجات سكان “الاكوادور” الأصليين بالتزامن مع تمرد عسكري أن يستقيل، وحوكم..
مع ذلك، لقد نجح بعض ذوي الجذور اللبنانية علي الصعيد السياسي في بلاد “الأمازون”، يأتي في مقدمة هؤلاء:
– “ميشال تامر”، نائب رئيسة البرازيل “ديلما روسيف”، تلك “الربعاوية” أكثر من “الإخوان المسلمين” أنفسهم!
لكل هذا أجدني لا أجد محلاً من الإعراب للمثل اللبناني الشهير هناك: “نيّال من له مرقد عنزة في لبنان”!
لا أعتقد أن شهيتي للكلام، والكلام عن الفنانة الجميلة “صباح”، جعلت الموضوع يترهل إلي حد طارت هي معه إلي ركن مهجور، فكل ما سلف مجرد مدخل ضروري لرؤية “حسونة الوادي” من كل جانب، فإن الباب الملكي للدخول إلي الشخصية التي طرأت علي”صباح” في منتصف الطريق هو هجرة أخري إلي “البرازيل”، ربما، حدثت في نفس الوقت الذي هاجرت فيه عائلة “ميشال تامر” هذا إلي هناك، إنها هجرة شقيقها الأصغر “انطوان” بجواز سفر مزيف، متنكراً في زي راهب، بعد أن قتل والدته تعقيباً علي انخراطها في علاقة محرمة مع عشيق لها من “بيروت”، كانت هذه العلاقة في ذلك الوقت حديث الناس، وكانت “صباح” تخطو خطواتها الأولي نحو الخلود في مجتمعات “القاهرة” عند وقوع تلك الجريمة، وعندما بلغها الخبر عادت ووالدها الفظ “جرجس” إلى “بيروت” عن طريق البحر، كان كل ما عرفته عن تلك الحادثة آنذاك أنها قتلت في “برمانا”، فقط، وهي، اعترفت ذات يوم أنها لم تعرف أبداً أين دفنت والدتها، اعترفت أيضاً في ذكريات روتها لـ “تليفزيون المستقبل” أنها قتلت علي يد ابنها عندما بلغته الوشايات عن ارتباطها بعلاقة محرمة مع رجل بيروتي!
والآن، أمام هذة الحادثة سوف تستحوذ علينا الدهشة من كل جانب عندما نعرف أن بيت المتنبي الشهير جداً:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذي / حتي يراق علي جوانبه الدمُ
هذا البيت ولد في جبل “لبنان”، من قصيدة قالها المتنبي وهو يهرب من “اسحق بن كيغلغ”، ويقول منها:
يحمي “ابن كيغلغ” الطريقَ وعرسُه / ما بين فخذيها الطريق الأعظم..
صدي السنين الحاكي مرة أخري، والذكريات!
علي أية حال، تلك الحادثة تحديداً كانت الأبرز بين الحوادث التي مدت جذورها في أعماق “صباح” حتي النهاية، ويمكن ببساطة أن نرد كثرة زيجاتها إلي التراكمات النفسية التي تركتها هناك هذه الحادثة تحديداً، هناك أسباب أخري طبعاً سوف يأتي وقت الحديث لاحقاً!
إن لم يكن الأمر هكذا، فما الذي كان يردعها عن ارتكاب نزواتها الجنسية في السر، أو حتي في وضح النهار، دون زواج، كما الكثيرات اللائي يلبسن أمام الناس مسوح القديسات، ويستلقين سراً علي سرير أول “عنتيل” يتودد إليهن؟
من الجدير بالذكر، أنها، قبل مقتل أمها المزري، وهي في عمر الرابعة عشر، اشتبكت في علاقة مشبوهة مع “كنعان الخطيب”، مدير إذاعة “صوت أميركا” في ذلك الوقت، كان في الأربعين من عمره، لكنه، برغم الفارق الرحب بين العمرين، استجاب لها، وسرعان ما مضغت سيرتهما الألسنة، وهذا دليل آخر علي أن إسراف “صباح” في الزواج، كان يعود إلي أسباب نفسية قبل كل شئ..
لقد كان يعشش داخلها ذعر خامل من مصير كمصير أمها، لكن، ربما دخلت الكثير من العلاقات المحرمة، ربما، وهناك الكثير من الشائعات حول قصص ساخنة كانت “صباح” أحد طرفيها،إنما حدث هذا بالتأكيد وهي في علاقة داخل إطار الزواج من أحد أزواجها ليني الطباع الذين كانت تنتقيهم بعناية تؤكد ما أقول أكثر مما تنفيه، فأغلب هؤلاء إما أكبر منها عمراً بكثير أو العكس، ويبقي اللافت أن أغلبهم كانوا متسامحين جداً، يحبون نقودها وشهرتها أكثر مما يحبون المرأة فيها، ولقد قالت هي ذات يوم:
– أحببتهم جميعاً، لكنهم اعتبروني (مدام بنك)، لم يحبني أحد!
كذلك اعترفت بانتهاء معظم زيجاتها بسبب خيانة بعضهم لها، وأكدت أنها ساعدت أغلبهم على ولوج عالم الأضواء ودعمتهم مادياً..
من الجدير بالذكر، أنه عندما ثار الغبار حول علاقة محرمة تربطها “فريد الأطرش” كانت متزوجة من “أنور منسي”، عازف الكمان ووالد ابنتها “هويدا” التي لم تحضر جنازتها، وكانت تقيم في الشقة المقابلة لشقة “فريد الأطرش”، وهو الذي لحن أغنية “حبيبة أمها” آنذاك!
لن أفلت الخيط قبل أن أتحدث عن هذه النقطة المؤلمة، أقول:
من المؤسف حقاً أن “هويدا” تغيبت عن تشييع جثمان أمها، وأجدني، لا أستطيع أن أجد تبريراً أكثر عدالة لغيابها من الجحود، مع ذلك، أدرك أن ما تحت سطح العلاقات الإنسانية أسرار كبيرة في أغلب الأحيان لا يجوز للغرباء الدوران حولها، وهي أسرار حبلي بأسباب مقنعة للقطيعة أحياناً، لذلك، أميل إلي تصديق المخرجة “كلودا عقل”، ابنة شقيقتها الممثلة “لمياء فغالي”، لقد قالت “كلودا” عبر الصفحة التي خصصتها لخالتها “صباح” على الفيس بوك:
– بالنسبة لهويدا، فبتمنى انو ما ينقال، قال وقيل في هذا المجال، لأن المخلوقة كانت منهارة وممنوعة من السفر، وليس لأنها بحاجة الى فلوس، بالعكس فيه كتير أشخاص طلبوا مني شخصيا انو بيجيبوها على نفقتهم ولكن ليس الموضوع موضوعا ماديا، فبتمنى من وسائل الاعلام ألا تتمادى في هذا الموضوع، لأن ما حدا بيعرف اكتر مني..
مع ذلك، يجب أن أقول أن “هويدا” مرت بأزمة صحية تعقيباً علي إدمانها للمخدرات عام “2006”، هذا أرغم الفنانة “صباح” على بيع بيتها لعلاج ابنتها بمصحة في “كاليفورنيا” بـ “الولايات المتحدة”، لتقيم بعد ذلك في غرفة في فندق “كونفورتيوم” في “الحازمية”، هي نفت هذه القصة لكنها حقيقة مؤكدة، وهي قالت في هذا الصدد:
– هويدا تلومني لأنني تركتها وهي صغيرة، كنت غارقة في عملي، أنا أم، والأم تسامح!
أنا، من جهتي، أعتقد أن سبب الفتور في العلاقة بين الأم وابنتها يتجاوز اللوم علي مجرد إهمال بأميال ضوئية، مع ذلك، “كلودا” تعرف ما وراء الكواليس أكثر من أي أحد، وهي أيضاً كانت المصدر الجذري لخبر وفاة خالتها، قالت يوم الأربعاء قبل الماضي:
– يا أحباب الصبوحة، الصبوحة اليوم راجعة على ضيعتا، عالأرض اللي حبّتا وحبّتا، الصبوحة اليوم راحت عالسما عند الرب الكبير، راحت عند اهلا وأخوتا اللي اشتاقتلن كتير، بتودعكن وبتقلكن ما تبكوا وما تزعلوا عليي وهيدي وصيتي إلكن..
– قالتلي قوليلن يحطو دبكة ويرقصوا بدي ياه يوم فرح مش يوم حزن..بدي ياهن دايما فرحانين بوجودي وبرحيلي متل ما كنت دايما فرّحن… وقالتلي قلكن انه بتحبكن كتير وانو ضلوا تذكروها وحبوها دايماً..
وأرفقت الصفحة المنشور بأغنية الفنانة “راجعة على ضيعتنا”..
وصية هي الأشد التصاقاً بطباع “الحسونة”، ابنة “وادي شحرور”، وطن العتابا والميجنا و الأوف، ثم، ما معني أن يحزن الناس أو يتظاهرون بالحزن لموت إنسان آخر، ما معني أن يبكي ميتٌ مؤجل من اكتمل موته فعلاً؟!
لكن، ما أرق اللبنانيين، كم هي بسيطة كلمات “كلودا”، لكنها قادرة علي استدعاء الوجع، مدببة وعفوية، تشبه بالتأكيد امرأة أخري من “وادي الشحرور”!
لقد تزوجت “الحسونة” بكل هؤلاء:
– نجيب شماس، والد ابنها الدكتور “صباح شماس”، ودام زواجهما خمس سنوات، كان في عمرها أبيها تقريباً، وكانت قد تزوجته بمجرد أن بلغت السن القانونية فراراً من جحيم والدها “جرجس” الذي كان رفيقها المتسلط في “القاهرة”، وكان شديد السيطرة عليها، يتصرف بأموالها ويوقّّع العقود السينمائية نيابة عنها، في إحدى اللقاءات التلفزيونية نعتته بـ “القاسي”، وقالت أنه سبّب لها عقدة نفسية دفعتها إلى الزواج أكثر من مرة لتثبت لنفسها أنها امرأة مرغوبة، بعدما اعتاد على تذكيرها دائماً بأنها ساذجة، لكن “نجيب شماس”، لسوء الطالع، لم يكن أقلّ من أبيها قسوة، عندما قرر أن يقيم في “طرابلس” لم تستطع هي العيش بعيداً عن “بيروت” وعن “القاهرة”، ثم، عندما منعها من السفر إلي “القاهرة” لتصوير فيلمها “سيبوني أحب”، وجدت ذريعة مناسبة لطلب الطلاق، وحدث، حدث أيضاً، أنها، أمام رفضه السماح لها برؤية ابنها “صباح”، طلبت تدخل رئيس الجمهورية عن طريق ابنته “لميا فرنجية”، وحدث أن أذعن طليقها لطلب الرئيس “فرنجية”!
– “خالد بن سعود بن عبد العزيز آل سعود”، قضت معه عدة أشهر فقط، وتم الطلاق بسبب ضغط من عائلته لتطليقه منها، كأن البدو، أهل الوبر، أرقي نسباً من الفينيقيين، يا لسخرية الزمن ووثباته الخاطئة، وغير المتوقعة!
– “أنور منسي”، والد ابنتها “هويدا”، ودام الزواج أربع سنوات..
– المذيع المصري “أحمد فراج” ، وقضت معه ثلاث سنوات، كان شاركها بطولة فيلم “امرأة وثلاثة رجال”، وتزوجا، بدا واضحاً منذ الشهر الأول أن المسافة بين ثقافة الزوجين شاسعة، كانت عفوية ومائية الطباع، سهلة وشغوفة بكل أسباب البهجة، وكان هو متديناً، غيوراً، وصلت غيرته حداً لم يتورع معه أن يتنصت علي مكالماتها، طلب منها مراعاة الحشمة في أزيائها وعدم أداء الأدوار الساخنة أو القبلات في السينما، وهذا بسيط وأليف ومقبول، لكن الغريب أنه طلب منها تجاوز تلك الرقة التي تثير الغرائز في أغنياتها، والإبتعاد عن ذلك الدلال الجنساني في تصرفاتها، هذه التصرفات جعلتها تدرك منذ البداية أن تجربة زواجهما محكوم عليها بالفشل لا محالة، مسألة وقت لا أكثر ولا أقل، لذلك رفضت فكرة أن يكون لهما أطفال، ولقد جاء هذا الوقت بعد سنوات ثلاث من زواجهما فعلاً!
الأغرب في قصتها مع “أحمد فراج”، وهو أحد أسبابي لتسمية “صباح” بـ “الحسونة”، أنه طلب منها ألا تقف علي المسرح لتغني وتكتفي بالغناء في السينما، كان هذا الطلب الغريب رد فعل شديد العصبية علي أغنيتها الشهيرة “الغاوي ينقط بطاقيته” علي المسرح، لأن في هذه الأغنية تحديداً مقطع بلغت فيه ذروة الغنج فعلاً، تلك القدرة علي استدعاء رغبة العاجزين حتي، وهو: “حسونة ما ترد عليا”، وبسبب المحرضات الصوتية علي إثارة الغرائز في هذا المقطع أيضاً، صدر قرار بمنع إذاعة الأغنية في الراديو والتليفزيون معاً..
– الفنان “رشدي أباظة”، وقضت معه خمسة أشهر، لالتحامه في علاقة كانت لا تزال مفتوحة علي غير ما كانت تظن هي مع الراقصة “سامية جمال” حدث الطلاق، اعترفت هي بأنها أحبته أكثر من أزواجها الباقين، هو أيضاً أحبها أكثر من الأخريات، وكانت آخر كلمة نطق بها عند موته: “صباح”..
– الفنان “يوسف شعبان” ودام زواجهما شهراً واحداً..
– النائب اللبناني “يوسف حمود”، وقضت معه سنتين..
– الفنان “وسيم طبارة”، وقضت معه أربع سنوات..
– الفنان “فادي قنطار”، أكبر حماقات “صباح” علي الإطلاق، قضت معه سبع عشرة عاماً، كان يصغرها بأكثر من عشرين عاماً، وهذا وحده كان كافياً لأن يجعلها هدفاً مشروعاً للسخرية، بالإضافة إلي إسرافها في إجراء جراحات التجميل طبعاً، تزوجا في “لندن”، وعندما تأكد خبر زواجهما هاجمها الإعلام اللبناني بقسوة بلغت حد اتهامها بالجنون، هي أيضاً، اعترفت بأن زواجها منه كان غلطة لن تسامح نفسها عليها، وأضافت:
– لم يكن الطلاق فقط بسبب ابتعاد “فادي” عني لبضعة أيام، كنت أفكر في ذلك منذ عامين، وكنت أعرف بحدسي إني واصلة الى هذا اليوم، إذ صار “فادي” ينشغل عني مع أصدقائه وفي البحث عن مستقبله..
هذا الكلام نصف الحقيقة فقط، ولكن ما تحت السطح خيانات وابتزاز، فملامح الرجل تفضح وصوليته، كرهته للوهلة الأولي عندما رأيته يجلس إلي جانبها للمرة الأولي ذات مساء بعيد في برنامج كان يقدمه الفنان “سمير صبري” اسمه “هذا المساء”، والأرواح جنود مجندة كما يقال..
انتشرت بعد طلاقها من “فادي” هذا شائعة بأنها تستعد للزواج من “عمر محيو” ملك جمال “لبنان” وكان عمره “25” سنة، اتضح بعد ذلك أنها كانت تساعده على الدخول إلى عالم الفن واختلقت قصة الحب والزواج وحاولت مساعدته فنيًا، وقد أنكرت هي هذه الإشاعة وقالت:
– لو كنت أصغر بقليل لتزوجته!
أكاد أجزم بصحة هذه الشائعة، وبرغبتها الحقيقية في الزواج من ذاك الشاب لولا عراقيل وعوائق عائلية ردعت تلك الرغبة الجارفة!
انتشرت أيضاً شائعة بنيتها الزواج من الفنان “جوزيف غريب” كوافيرها الخاص، قيل أيضاً، أنها تزوجت لفترة قصيرة من الثري الكويتي الشيخ “عبد الله المبارك”، ومن الصحفي “موسى صبري” رئيس تحرير جريدة “الأخبار”، وكل هذه الأقاويل لم تخرج أبداً عن إطار الشائعات!
كانت هناك حادثة أخري، غير حادثة مقتل والدتها، تركت بصمتها السيئة في أعماق “صباح”، كانت آنذاك طفلة، لكن، ربما، لولا وقوع تلك الحادثة لخرجت “صباح” من باب الحياة إلي باب الموت كغيرها من ملايين الموهوبين الذين سقطوا في منتصف الطريق دون أن يسمع بهم أحد!
المكان بلدة “بدادون”، والزمان بداية ثلاثينات القرن الماضي، والأفق “وداي شحرور”، بلدة الموال والعتابا والميجنا، ويأتي في مقدمة شعراء الزجل المنتسبين إلي هذا الوداي بحكم الميلاد عم الجميلة “صباح” الشاعر “أسعد الخوري الفغالي”، وكان ملقباً بـ “شحرور الوادي”، ومن هنا جاء لقب “شحرورة الوادي”، لأن “صباح” كانت تحفظ وهي ما زالت طفلة كل أشعاره وترددها!
ولكي تكتمل الصورة الذهنية عن “صباح” لابد من استدعاء رائحة المكان الذي ولدت فيه من نقطة مركزة أشد قرباً، ذلك أن لرائحة المكان أثر في تكوين المرء لا يمكن إنكاره!
كان “وادي شحرور” ملكاً للامراء الشهابيين كغيره من البلدات المحيطة، وقد قسم هؤلاء الامراء البلدة الى أحياء وفق موقع قصورهم التي يبلغ عمرها حوالى “400” سنة وما زالت قائمة وحية حتي يومنا هذا، كان الأمير “شفيق شهاب” آخر الامراء الشهابيين الذين سكنوا البلدة، وقد ورثت عنه منزله ابنته “جلنار” التي تعيش فيه حاليا، فيما تعرف احياء ومنازل كثيرة في البلدة بأسماء أمراء الأسرة الشهابية الذين سكنوا فيها ومنها: دار المير “قيس”، دار المير “سليم”، دار المير “علي”، دار المير “كميل”، وأخرى تعرف بدار “حليما” كما يوجد قبر أثري للأمير “شفيق شهاب” وأخته السيدة “زاهدة”!
هؤلاء الإقطاعيون كانوا يملكون البلدة بكل ما فيها ويعتبرون السكان عبيداً للأرض لا أكثر، هذا يفسر سبب موجات النزوح الجماعي من لبنان إلي بلاد المهجر، ولقد استمر هذا الوضع سائداً حتي اندلعت ثورة “انطلياس” عام “1820”، عندما لم يعد بوسع الشعب دفع الضرائب لتغطية مطالب الحاكم العثماني “أحمد باشا الجزار”، فتخلوا عن الأمير “بشير” ونادوا بـ “حسن الشهابي” أميرا للبنان، فاضطر الوالي “عبد الله باشا” لإسكات الغضب الشعبي أن يلبي ذاك المطلب صاغراً، وأصبح “حسن شهاب” القاطن في “وادي شحرور” أميراً..
يقولون أن سبب تسمية الوادي بهذا الاسم هو كثرة طيور “الشحرور” هناك، وهو، بالمناسبة، طائر أسود اللون، لا يشبه “الحسونة”، يقولون أيضاً أن تسميته تعود إلي أصل سامي مشترك وهو “شحر”، أي السواد والظلمة، إذا صح هذا الاقتراح فهناك مفارقة مثيرة، ذلك أن اسم “لبنان” مشتق من أصل سامي، المفردة السامية “لبن” تحديداً، وهي تعني “أبيض”، قيل أن ذلك بسبب لون الثلوج التي تكسو جباله، لكن، قيل أيضاً، هو اسم سرياني مؤلف من “لب” و”أنان” وتعني “قلب الله”، لشهرة جبال “لبنان” كموطن للآلهة عند الأقدمين، ومن جهتي، لا أري تعارضاً كبيراً بين الرأيين، كما أن هناك إلهة قديمة أسطورية تسمي “أنانا” فعلاً!
لكن، بالنسبة إلي أصل تسمية “وادي شحرور”، هناك رأي آخر يقول أن ذلك يعود إلى “مشحرر” المشتقة من “حرر”، أي أعتق، وأنا أميل إلي هذا الرأي، فلقد كان أهل الوادي عبيداً للأرض فعلاً قبل أن يمتلكوا هذه الأرض لأنفسهم!
من كان يصدق في ذلك الوقت أن طفلة سوف تولد في “بدادون” في العاشر من أكتوبر عام “1927” سوف يركع لتقبيل يدها أمراء العثمانيين في مركز الخلافة؟، من كان يصدق؟، إنها “جانيت فغالي” بطبيعة الحال، الحسونة!
كانت المولودة الثالثة لعائلة “جرجس فغالي”، ابن “كاهن الرعية”، بعد شقيقتيها “جولييت” و “لمياء”، وكما يحدث في مجتمعات القاع عادة، قيل أن والدتها عندما علمت أنها ولدت بنتاً لم تستطع كبح دموعها، فالعائلة كانت تريد صبياً، قيل أيضاً، أنها امتنعت طيلة يومين عن إرضاعها، ولولا توسلات شقيق زوجها الشاعر “أسعد فغالي”، “شحرور الوادي” ما كانت لترضع الطفلة، لتطرد بطنها بعد أقل من عامين من ولادة “صباح” قاتلها “انطوان”، ما أغرب الدنيا!
كانت الحياة في البيت هادئة، راكدة، فيوميات العائلة متشابهة التفاصيل، كانت والدتها، حسب روايتها هي، خفيفة الظل، مرحة، وشغوفة بالفن، وكانت اهتمامات أبيها تنصب علي زراعة قطعة الأرض التي يمتلكها في البلدة، وبسيارته “الفورد” العمومية التي يقودها السائق “طنوس”، لكن، ما لبث هذا الهدوء والسلام العائليّ أن ارتبك وتبدل بمقتل شقيقتها الكبري “جولييت” من جراء اصابتها، وهي في العاشرة من عمرها، بطلق ناري في مشاجرة بالأسلحة حدثت في البلدة، انتقلت الأسرة علي وقع تلك الحادثة المؤلمة للإقامة في العاصمة، ولقد شكلت هذه الهجرة الداخلية من الريف إلي “بيروت” نقطة تحول جوهرية، بل، ربما، انتشلت “صباح” من احتمالات النسيان!
في منطقة “جل الديب”، وهي إحدى القرى اللبنانية من قضاء المتن في “جبل لبنان”، حسب روايتها، وقعت قصة غريبة كانت “صباح” تحتفي بالحديث عنها كثيراً، لقد ذهبت مع العائلة إلي هناك لزيارة إحدى العائلات، قال لهم صاحب البيت:
– بالقرب من منزلنا كنيسة، كل من يدخلها للمرة الأولى ويطلب أمنية معينة تتحقق!
تحينت “صباح” فرصة انشغال الباقين بتناول الطعام وتسللت إلى الكنيسة بهدوء شديد واحتراس، بكت وهي تصلي داعية الله أن يحقق أمنيتها الوحيدة:
-أريد أن أصبح مطربة ناجحة ومشهورة..
إنها واحدة من المرات القلائل التي استجابت فيها القوي الإيجابية في الطبيعة لتوسلات أحد دون شروط!
وفي “بيروت”، التحقت “جانيت” بمدرسة “القلب الاقدس” في “الجميزة”، وهناك، بدأت تغني في المناسبات المدرسية، وهناك، علي حين غرة، كانت علي موعد مع اللحظة التي كانت نجمة كبيرة تتهيأ للميلاد سوف تسكنها هي بعد سنوات قليلة!
لقد حضر “قيصر يونس”، صهر المنتجة “آسيا داغر”، إحدي المناسبات في مدرسة “القلب الأقدس”، ورآها تمثل، أو رأي فيها نجمة مؤجلة في الحقيقة، فاقترب من “جرجس فغالي”، وقال له:
– حرام ألا تدخل ابنتك السينما!
لم يكن إعجاب “قيصر يونس” وحده كافياً لدخول “الحسونة” إلي رحاب الضوء بتلك السهولة بطبيعة الحال، إنما إعجاب “قيصر يونس” وقوة اللحظة معاً، فالحياة هي صراعٌ واشتباكٌ واختلافٌ، لذلك، ما الخلود إلا ذلك القدر الذي ينجو من الذوبان في لهيب المعركة، ويتبقي من الإنسان بعد الانسحاب من حلبة الحياة إلي مثواه الأخير، فإن الخالدون درجات تماماً كالناس، ولولا وجود “صباح” في الحياة في نفس المدة الزمنية مع مواطنتها “ألكسندرا بدران”، الشهيرة بـ”نور الهدي” لحظيت الأخيرة بمساحة أكبر من الضوء، ودرجة أعلي من درجات الخلود، فما من شك أن خفوت ذكر “نور الهدي” يعود بالأساس إلي وجود “صباح” في نفس المدة الزمنية !
في ذلك الوقت، كان “يوسف وهبي” قد اكتشف صوت اللبنانية “نور الهدي”، وللحقيقة أن مكتشفها هو زوج عمتها ووالد الممثلة اللبنانية “فريال كريم” في الوقت نفسه، كان والدها يعمل في “تركيا”، وولدت هناك قبل ميلاد (ضرتها الفنية) بثلاثة أعوام فقط، لكنها عادت إلي “لبنان” طفلة فراراً من قسوة والدها، بلغ من القسوة حداً لم يتورع معه عن سجنها في بداياتها لإحيائها حفلاً بسينما “كريستال” في بيروت، هكذا قيل، لكنه، أذعن في النهاية للأمر الواقع بعد وساطة الكثيرين من أفراد العائلة بشروطه، لقد اشترط أن يرافقها في كل حفلاتها، هذا دفع الصحف المصرية أن تطلق علي الأب وابنته: (نور الهدي وخيالها)!
ما أغرب التشابه بين بداية النجمتين!
كان احتكار “يوسف وهبي” لـ “نور الهدي” خطأً كبيراً دفع الشركات المنافسة للبحث عن نجمة تعترض طريق هذه النجمة المحرمة، ولسوء حظ “ألكسندرا”، ولحسن حظ عشاق “ساعات ساعات” و “يا دلع” و “عالندا” و “ع الضيعة” و “ع البساطة البساطة” و “الغاوي ينقط بطاقيته”، وقع اختيار “آسيا داغر” علي مواطنتها “صباح” طبعاً لحمل أعباء تلك المهمة، ولقد اعترضت بريق “نور الهدي” بنجاح، ربما، حدث هذا لسبب واحد، لقد كانت المسافة بين “صباح” الإنسانة و “صباح” الفنانة قصيرة جداً، جداً، لا تلمسوا شيئاً!
برفقة والدها القاسي، وصلت “صباح” إلي “مصر”، وفي أحد مقاهي شارع “فؤاد الأول”، خلع عليها الشاعر “صالح جودت” اسمها الفني الذي عرفت به بوحي من وجهها الذي كان مشرقاً كنور الصباح، وكان أول خطواتها في عالم السينما فيلم “القلب له واحد” مع الفنان “أنور وجدي” عام “1943”، أحرز الفيلم نجاحاً متوسطاً، لكن جدران القلوب كانت قد تراجعت أمام فتنة تلك الشقراء فعلاً، وأصبحت منذ ذلك الوقت فاكهة في غير موسمها حقيقة، كانت قد نجت!
بمرور الوقت أصبحت أيقونة للموضة، لا تهتم فقط بتفاصيلها، بل تتوغل في التفاصيل حتي جذورها، ربما، لم تكن “صباح” هي الأجمل بين نجمات جيلها، لكن، تناقضها بالتأكيد، بالإضافة إلي حياتها المزدحمة بالشائعات والأسرار، جعل منها واسطة العقد بين نجمات تلك المرحلة، لذلك، ليس أبداً من الغرابة بمكان أن تكون هي رائدة للباحثات عن الشباب الدائم، ولذلك، جازفت بالخضوع لجراحات التجميل حتي قبل أن يصل هذا التخصص درجة النضج التي هو عليها الآن، وهذا أضرها كثيراً، لقد اختفت تعبيرات وجهها الطبيعية، وتآكلت لغة جسدها تماماً، فاستحالت مثل تمثال من حلوي أشقر الشعر في النهاية!
هوس غير مبرر بالمظهر الخارجي كان يحاصر عقلها من كل الجهات، وهي، قالت ذات مرة، ربما، في لحظة من التفكير السليم:
– قضيت عمري سجينة بشكل ملوّن، وإطار لمّاع، وأناقة مفرطة!
وكانت تردد دائماً:
– نحن “آل فغالي” نحتفظ بشكلنا الخارجي الحسن حتى مع تقدمنا في السن، هكذا كان والدي وخالي وعمي!
وأجابت، مراراً، علي سائليها عن سر شبابها الدائم:
– لا أدخن، لا أشرب الكحول، وأنام مبكراً..
رحلة طويلة، تركت خلفها، عندما ألقت عصاها و استقر بها النوي، كما قر عيناً بالإياب المسافرُ:
“83” فيلماً بين مصري و لبناني، و “27” مسرحية لبنانية، وحوالي “4000” أغنية بين مصري ولبناني، وهي، كانت ثاني فنانة عربية بعد “أم كلثوم” في أواخر الستينات تغني على مسرح “الأولمبيا” في العاصكة الفرنسية “باريس” مع فرقة “روميو لحود” الاستعراضية في منتصف السبعينات، وقفت أيضاً على مسرح “كارناجري هول” في “نيويورك”، ودار الأوبرا في “سيدني”، وقصر الفنون في “بلجيكا”، وقاعة “ألبرت هول” في “لندن”، وغيرها..
في مارس “2003” قررت الهجرة إلي “أميركا” نهائياً لتعيش إلى جانب ولديها، وبررت قرارها بضيق سبل العيش في “لبنان” وشعورها بالوحدة، لكنها لم تلبث أن عادت إلي “لبنان” بعد شهرين أو أقل لشعورها بالعجز عن العيش خارجه، وانتقلت للإقامة في منزل شقيقتها الممثلة “لمياء فغالي” وابنتها “كلودا عقل”، وعند وفاة “لمياء” انتقلت الى “كونفورتيوم” ليكون مقراً نهائياً لها..
لا أجد مقولة أشد جمالاً وحدة تشبه ما كان يدور في عقل “الحسونة” ولا تستطيع صياغته كلمات أجمل من مقولةٍ للرسامة المكسيكية الشهيرة “فريدا كاهلو”، تلك المعاقة التي تفوقت اللبنانية الجذور “سلمي حايك” علي نفسها في تجسيد شخصيتها في فيلم “فريدا” الذي يسرد حياتها، قالت:
– أتمنى أن يكون خروجي من الدنيا ممتعاً، وأتمنى أن لا أعود اليها ثانية!
يوم الأربعاء قبل الماضي، كان هناك نعي آخر للحسونة، برغم خلوه من إحساس الصدمة ونبرة ألفة الوداع في طياته، ربما يقل حرارة، لكنه لا يقل جمالاً عن نعي “كلودا عقل”، إنه نعي موقع الجرس:
– “صباح” في ذمة الله، منذ ساعة نامت “صباح” للأبد، رحلت وهي غافية مثل الملاك نامت، الكل مرتبك و “صباح” في غرفتها هادئة دون نفس، والعائلة الصغيرة تفكر باستدعاء ولديها، وقرار موعد الدفن يقرره ابن عمها، وبعد أن تقوم الهيئات المعنية بالنعي الواجب والمراسم اللازمة لقامة فنية بمستوى “صباح”..
لقد طارت “الحسونة”، طارت بعيداً، فوداعاً، مع الموتي، ذلك أفضل جداً..
محمد رفعت الدومي