إبان حكم الملك فيصل نشطت الحركة الصهيونية في دمشق وسعت للتواصل مع المجتمع العربي، فأصدرت صحيفة بالعبرية والعربية. إلا أن معارضة القوميين العرب وتشدد الفرنسيين أجهض مشروعها
إبان الحرب العالمية الأولى والسنوات التي تلتها جاء عدد لا بأس به من اليهود إلى دمشق، وساهموا في نشر الفكر الصهيوني بين المجتمع اليهودي هناك. وكانت الصحافة تلعب دوراً ملحوظاً وهاماً في تلك الفترة من حيث تعبيرها عن الرأي العام السوري وصياغة ملامحه. وبإقرار من الملك فيصل بل وبتشجيع منه تبيّن لمندوبي المؤسسات الصهيونية في دمشق، شأنهم شأن عدد من الشبان اليهود المحليين، أنه يجب على هذه المؤسسات تفعيل دورها في المجال الإعلامي أيضاً.
فبدأ هؤلاء بالإلحاح على طلب إصدار صحيفة ذات رؤية معتدلة ومطمئنة تسعى إلى التقريب بين العرب واليهود وجعلهم يدركون حقيقة الصهيونية. ونجحوا في مسعاهم بتأسيس صحيفة مزدوجة اللغة (عبرية – عربية) أطلِق عليها اسم “همِزراح/ الشرق”، حيث صدرت منها ثلاثة أعداد في دمشق قبل احتجابها عن الصدور. غير أن محتويات هذه الأعداد الثلاثة، بحد ذاتها، تسمح لنا بإمعان النظر في النشاط الصهيوني الذي كان يجري في دمشق في فترة حكم الملك فيصل (1918-1920).
المجتمع العربي أولا واليهودي ثانيا!
أما الجمهور الرئيسي الذي استهدفته، فكان الجمهور العربي السوري بالذات. إذ تمت مخاطبة هذا الجمهور في مسعى لإقناعه باعتماد مواقف متوازنة من النشاطات الصهيونية التي كانت تجري آنذاك في أرض إسرائيل تفادياً لصب هذا الجمهور جام غضبه على يهود دمشق. ولهذا اعتمدت الصحيفة خطاباً أكد على أنها تتطلع لأن تكون “جسراً بين العرب واليهود”. وبعد الجمهور العربي استهدفت الصحيفة المجتمعات اليهودية في سوريا ولبنان عامة وفي دمشق خاصة، إذ أصبح مندوبو “اللجنة الصهيونية” (الهيئة المنظمة للنشاطات الصهيونية في المنطقة في ذلك الوقت) يدركون أهمية النخبة اليهودية في دمشق، اقتصادياً وثقافياً، والدور الذي كان من الممكن أن تلعبه كهمزة وصل بين الحركة الصهيونية وأقطاب الحركة القومية العربية وكبار مسؤولي حكومة الملك فيصل. كما كان الصحيفة تستهدف مسؤولي المؤسسات الصهيونية في أرض إسرائيل والعالم بغية إطلاعهم على الصعوبات التي كانت تعترض النشاط الصهيوني في دمشق. وقد صدر العدد الأول للصحيفة يوم 5 يوليو/ تموز 1920 متضمنا صفحتين بالعبرية تحت عنوان “همِزراح” وصفحتين بالعربية تحت عنوان “الشرق”. وكانت النية معقودة على نشر ثلاثة أعداد للصحيفة أسبوعياً.
أما مؤسس الصحيفة فكان يوسيف يوئيل ريفلين والد الرئيس الحالي لدولة إسرائيل رؤوفين ريفلين. ونشر ريفلين على صفحات “همزراح/ الشرق” مقالة تناولت مسألة “أول مطبعة عبرية في دمشق”. كما أن الصحيفة قلدت الصيغ التي كانت معتمدة في تلك الفترة في الصحف العبرية الصادرة في أرض إسرائيل. ورغم التهاني والإعلانات التجارية ومنها إعلان لفندق “أورشليم”- أول فندق عبري في دمشق! التي نشرتها الصحيفة فإنها نشرت مقالا ينتقد أداء قيادة المجتمع اليهودي في دمشق ونظام عملها أيضا.
معارضة شرسة من القوميين العرب
وأثار صدور الصحيفة عاصفة من الاحتجاجات في المؤتمر الوطني السوري، بقيادة شخصيات سورية وفلسطينية كانت تنتمي للأوساط القومية المتشددة، عارضت بشدة نشر الصحيفة. كما أن الصحافة العربية أيضا في سوريا لم يرق لها صدور “همزراح/ الشرق” حيث أجمعت على معارضتها، وأعربت عن غضبها من مجرد التصريح الرسمي بإصدار صحيفة ذات أهداف صهيونية، خاصة في الوقت الذي كانت عدة صحف عربية سورية موالية للفلسطينيين.
وعليه صدر العدد الثاني من الصحيفة يوم 9 يوليو/ تموز 1920 في ظل الضغوط والتهديدات. وتم حصر الجزء العبري من الصحيفة في صفحة واحدة تضمنت أخباراً روتينية عما كان يجري في العيادات والمدارس التابعة لمجتمع يهود دمشق. أما العدد الثالث والأخير من الصحيفة فصدر بعد 3 أيام متضمنا فقط صفحتين بالعربية.
ورغم انشغال حكومة دمشق حينها بخطر الاحتلال الفرنسي للأراضي السورية وما واكبه من إنذار وجهه الفرنسيون للملك فيصل، فإنها تفرغت أيضاً وبمنتهى الحماس، للجدل حول قضية السماح باستمرار صدور صحيفة “همزراح/ الشرق” من عدمه باعتبارها “حدثاً سياسياً”. وتلقت هيئة تحرير الصحيفة بعد صدور عددها الثالث أمراً مباشراً من وزير الحربية في الحكومة يوسف العظمة بالكف عن نشر الصحيفة إلى أجل غير مسمى.
الفرنسيون يحظرون الصحيفة نهائيا
وبعد دخول القوات الفرنسية لدمشق أواخر يوليو/ تموز 1920 وإقصاء الملك فيصل عن العرش، انتعشت الآمال مجددا لدى أوساط الحركة الصهيونية في دمشق بأن تسمح السلطات الفرنسية، كونها غربية مستنيرة، باستئناف صدور الصحيفة. إلا أن تلك الآمال لم تتحقق، وحظرت السلطات الفرنسية أواخر سبتمبر/ أيلول 1920 نهائياً إعادة نشر الصحيفة، وتذرع الموظف الفرنسي الذي كان مسؤولاً عن قضايا المطبوعات، باتخاذ السلطات الفرنسية العليا قراراً عاماً يحظر إصدار الصحف الجديدة بجميع أنواعها. إلا أن هذا القرار، إن تم اتخاذه، فإنه لم يصبق إلا جزئياً، حيث صدرت صحف عربية جديدة في تلك الفترة!
وقدمت السلطات الفرنسية حجة أخرى لتبرير قرار حظرها نشر الصحيفة، إذ ادّعت بأن السكان اليهود يتسلمون صُحفاً تصدر في أورشليم- القدس، ما يغنيهم عن أي صحيفة أخرى.
وأياً كانت الذريعة، فإن النتيجة كانت بقاء يهود دمشق من دون صحيفة تكون لسان حالهم، بينما كان لسكان المدينة من المسيحيين والمسلمين العديد من الصحف والمنشورات. وأدت هذه الحالة إلى ازدياد شعور اليهود في دمشق بأن السلطات الفرنسية معادية لهم.
(نقلاً عن دراسة نشرها الباحث يارون هرئيل في مجلة “أمناء المكتبات” الصادرة عن المكتبة الوطنية الإسرائيلية في أورشليم القدس).
حقوق التصوير: المكتبة الوطنية الإسرائيلية: المصدر: المغرد